جهد جديد لحل إشكاليات قديمة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 19 فبراير 2015 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

منذ بضعة أيام كانت لى محاضرة فى مسقط عن التسامح الدينى كما كان لى مقال عن الغيرية الدينية العنفية المتعصبة. ولقد تبين لى أن المدخل للتقليل من ظاهرة الغيرية تلك ولتشجيع وبناء التسامح الدينى فى أرض العرب يمر عن طريق مراجعة نقدية موضوعية لبعض القراءات والتفاسير الخاطئة للنصوص القرءانية الكريمة وللأحاديث النبوية المؤكدة، وأوردت أمثلة لمواضيع تحتاج لمثل تلك القراءة.

بعد يومين علمت عن طريق الإذاعات أن مجموعة من المفكرين الإسلاميين فى أوروبا تحضّر لعقد مؤتمر فكرى فى بداية العام المقبل للنظر فى وضع أسس لنشاط نقدى يتوجه لنقد ما علق بالخطاب الدينى الإسلامى عبر العصور، بما فيها العصر الذى نعيش، ومحاولة إجراء قراءات جديدة تُبعد المجتمعات العربية والإسلامية الحالية عن الجحيم التكفيرى الإرهابى الذى يهدد بتدمير بنيتها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية ويدخلها فى حرب مجنونة أبدية مع بقية العالم.

طالما أن الموضوع هو فى فترة التحضير فمن الضرورى أن يساهم كل من يهمه الأمر فى إنجاح ذلك الجهد، وهذا ما سأحاول بتواضع القيام به.
أولا: أن عملية تلك المراجعة يجب أن تكون شاملة بكل المعنى، بحيث تتم مراجعة ونقد كل القراءات الخاطئة أو الناقصة أو التى تجاوزها الزمن فى كل مذهب إسلامى وفى كل مدرسة فقهية بما فى ذلك بالطبع قراءات القوى التكفيرية التى تموج بها مجتمعات العرب والمسلمين.

ثانيا: ولأن الفقه الإسلامى لا يتعامل فقط مع العقائد والمعاملات وإنما يشمل أيضا مواضيع تمس حقول الطب وعلوم الكون الطبيعى فإن محاولة القراءات الجديدة والنقد يجب أن تشمل أيضا تلك الحقول.

ولا يحتاج الإنسان لأكثر من مشاهدة بعض الفضائيات الدينية، ودخولها اليومى فى فضاءات التداوى من هذا المرض العضوى أو النفسى وذاك، أو محاولة إقحام النصوص الدينية الكريمة فى فهم حقول المكتشفات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وتطوراتها الصّاعدة والهابطة على الدوام، حتى يدرك أن مراجعة القراءات المتعلقة بمثل تلك المواضيع ضرورية، وذلك من أجل تنقية وتعديل أفهام العربى والمسلم للكثير من القراءات الفقهية لعلوم العصر التى يصر الكثيرون على إعطائها قدسية مساوية للنصوص القرءانية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة المؤكدة.

ثالثا: من هنا سيكون من الضرورى أن يوجد فى ذلك المؤتمر اختصاصيون فى العلوم الطبيعية والطب والعلوم الاجتماعية وغيرها للمساهمة فى تحليل ونقد تلك المواضيع كجزء من تنقية ماعلق بالفقه الإسلامى عبر العصور المتلاحقة.

رابعاّ: إن عملية المراجعة الشاملة والنقد الرّصين والقراءات الجديدة ستحتاج إلى أفق زمنى ممتد، مما يعنى الحاجة لمأسسة ذلك الجهد حتى يبقى موجودا عبر المستقبل البعيد للرد على كل مخرّف أو معتوه متطرف أو جاهل أحمق يريد إقحام هذا الدين الشديد البساطة واليسر فى دروب وعرة شائكة تجعل معتنقيه فى خصام دائم مع عصرهم ومع معتنقى كل الديانات الأخرى.

خامسا: أن مأسسة ذلك الجهد ستتطلب أن تكون بعيدة عن اتباعه بأية سلطة رسمية سواء كانـت سياسية أو دينية، وذلك حتى يكون ذلك الجهد حكما على الجميع ومحترما من الجميع، وإلى أبعد الحدود الممكنة مقبولا من الجميع. أن ذلك لن يكون سهلا فى مجتمعات تعودت سلطاتها السياسية والدينية على ممارسة الهيمنة التامة ووضع الجميع تحت أجنحتها.

من أجل ذلك لابدّ من النظر فى بناء وقفية يتبرّع لها الموسرون من العرب والمسلمين المالكين لالتزام ضميرى وأخلاقى تجاه إخراج مجتمعاتهم وشعوبهم من الجحيم العبثى التكفيرى، بكل أشكاله وألوانه وأسمائه، الذى يصُّر على ممارسة كل تلاوين العار والخسّة والغدر والتوحُّش باسم دين الحق والقسط والميزان والرّحمة الإلهيّة.

كل المؤسسات الفكرية والاجتماعية والبحثية فى بلاد العرب والمسلمين عانت الأمرين، ثم الاختفاء والموت التدريجى، بسبب عدم حل إشكالية التوفُّر والاستقرار المادى الذى يمكّنها من الاستقلالية والابتعاد عن الجهات التى لا يهدأ لها بال إلا بالسيطرة على الآخرين وتوجيه كل نشاطاتهم.

أخيرا، إذا وجدت مثل هكذا مؤسسة، تضم فقهاء ومفكرين وعلماء لديهم غيرة على مستقبل مجتمعاتهم، وبالتالى إخراج تلك المجتمعات من تخلفها الحضارى التاريخى الذى وصلت إليه، فإنها ستكون إحدى المرجعيات التى ستساهم فى مساعدة أجيال المستقبل للتعامل مع تطورات أزمنتهم من خلال فهم روحى عقلانى مستنير ميسر تباركه السماء وتحتاجه هذه الأرض التى تعانى من جنون الإنسان ونوازعه.
وبالنسبة لأمة العرب فإن تحقيق الكثير من تطلعاتها القومية والحضارية سيسهله وجود مثل تلك المؤسسة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved