نحو استعادة القبول الشعبى للديمقراطية

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 18 يناير 2019 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

يمكن التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع، حين يستقر، المواطنات والمواطنين من إدارة حياتهم الخاصة والإسهام فى الشأن العام فى ظل ضمانات للحريات ولحقوق الإنسان ولكرامته ولتكافؤ الفرص وبحث مشروع عن المبادرة الفردية. بالقطع وبالتحرر من المقاربة المثالية للديمقراطية، تتفاوت حظوظ الناس وتؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية فى درجات شعورهم بالحريات وحقوق الإنسان والمبادرة الفردية وممارستهم لها فى الحياة الخاصة والعامة. إلا أن تمكين قطاعات تتسع باطراد يمثل قاعدة أساس للديمقراطية، ويقترن بها دوما التحرر من الخوف النابع إن من قمع الحكام للمحكومين أو من تراكم المظالم المجتمعية. وفى الكثير من الحالات، توفر الحريات والحقوق والكرامة الإنسانية والمبادرة الفردية والتحرر من الخوف بيئة مساعدة على التميز الشخصى والإبداع وتدفع بالدولة والمجتمع المعنيين إلى التنمية المستدامة والتقدم.
أما حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، فتتراجع ضمانات الحريات وحقوق الإنسان وكرامته والمبادرة الفردية وتكافؤ الفرص. حين تغيب الديمقراطية، يمسك الخوف بالناس فيغتال التميز الشخصى ويقتل الإبداع ويحد كثيرا من إمكانيات المبادرة الفردية والتنمية المستدامة والتقدم فى الدولة والمجتمع المعنيين. حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، تهيمن جموع محدودى الكفاءة ومروجى خطاب الكراهية والإغلاق والإقصاء على الفضاء العام وتبتعد طاقة نور الحرية وحقوق الإنسان التى يحتاجها الفرد لكيلا تنزع عنه إنسانيته وتحتاجها الدولة والمجتمع لكى توفر بيئة صحية للناس. حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، ينسحب من الفضاء العام العالم والمبدع والفنان والأديب ويتركونه فسيحا لضجيج فارغ المضمون فى السياسة والإعلام تحت يافطة الحقيقة الواحدة والرأى الواحد والزعيم الواحد ويرتفع منسوب الكراهية والتشويه والتخوين وتوضع النزعة الإنسانية إجباريا خارج الخدمة.
***
على الرغم من ذلك، يجافى الصواب الاعتقاد بأن القبول الشعبى للتنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع يستند فقط إلى ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة التى تقر دستوريا وقانونيا وتفعل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. فبجانب ضمانات الحقوق والحريات، تدلل الخبرات التاريخية والمعاصرة للديمقراطيات على أن قبولها الشعبى يرتبط بأفضليتها مقارنة بالأنماط الأخرى للحكم ولإدارة الشأن العام لجهة تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلى. وعد الديمقراطية هو اقتران الحقوق والحريات بتحسن الأحوال المعيشية للمواطنات وللمواطنين وارتفاع مستوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية التى يحصلون عليها وتمكينهم بتمايزاتهم من المشاركة فى النشاط الاقتصادى على أساس من تكافؤ الفرص والمنافسة وضمان مشاركتهم فى الحياة الاجتماعية وكذلك ممارستهم للشعائر الدينية فى إطار من المساواة والأمن. وعد الديمقراطية هو اقتران الإقرار الدستورى والقانونى للحقوق والحريات بتنامى التزام الدولة ومؤسساتها وأجهزتها والتزام الكيانات الجماعية غير الحكومية بسيادة القانون والسلمية ومحاربة الفساد واستغلال المنصب العام.
أما حين تخفق الديمقراطيات فى تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلى، فإن حضور ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة لا يحول بين الناس وبين الاندفاع الجماعى نحو تأييد أنماط أخرى للحكم تبنى قبولها الشعبى على وعد مضاد إن باستعادة التنمية والتقدم كما فعلت الفاشيات الأوروبية والآسيوية فى النصف الأول من القرن العشرين والحكومات الفاشية والعسكرية فى أمريكا اللاتينية فى نصفه الثانى أو بإنقاذ السلم الأهلى وبناء الدولة القوية وتحقيق التحرر الوطنى كما فعلت نخب الاستقلال (عسكرية ومدنية) فى مصر والعديد من الدول العربية والإفريقية فى النصف الثانى من القرن العشرين أو بخليط من كل هذا ومعه الحنين إلى الأمجاد الماضية للقوة العظمى كما يفعل اليوم فلاديمير بوتين ونخبة حكمه فى روسيا الاتحادية. وفى حالات أخرى كالصين التى لم يتطور بها أبدا التنظيم الديمقراطى استجابت أغلبية مستقرة من الناس لمساومة جماعية جوهرها قضاء الدولة على الفقر وضمانها للتقدم الاقتصادى والاجتماعى وللتنمية المستدامة وتخلى المجتمع، باستثناء مجموعات صغيرة من المفكرين والكتاب والصحفيين والحقوقيين وأساتذة الجامعات، عن المطالبة بالحقوق والحريات الشخصية والسياسية.
***
غير أن الإشكالية الكبرى هنا هى أن الخبرة التاريخية والمعاصرة لأنماط الحكم غير الديمقراطية تثبت عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلى والحفاظ على الاستقلال الوطنى على نحو مستقر وتدلل أيضا على زجها بدولها ومجتمعاتها إلى أتون أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تنتهى. ويستفيق الناس، وبعد اندفاعهم لتأييد التخلى عن الديمقراطية أو استبعادها من قاموس المرغوب به جماعيا أو لتبنى موجات الفاشية، على خسارتهم لكل شىء بغياب التنمية المستدامة والتقدم وانهيار ضمانات الحقوق والحريات. هكذا انتهت الفاشيات الأوروبية الآسيوية والحكومات العسكرية فى أمريكا اللاتينية، وهكذا كان السجل التاريخى للعديد من نخب الاستقلال فى الدول العربية والإفريقية. ولم يبتعد عن خبرة فشل أنماط الحكم غير الديمقراطية فى تحقيق التنمية المستدامة إلا دول كالصين ولها خصوصية جلية ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والمساحة والكثافة السكانية والموارد الطبيعية الهائلة ودول مثل سنغافورة التى تبنت نموذجا تنمويا ناجحا عماده قيادة نخبة الحكم للقضاء على الفقر ونشر التعليم ومحاربة الفساد وبعض الدول النفطية فى الخليج.
يعنى هذا، وأسجله اليوم والخامس والعشرين من يناير يقترب وفقدان ثقة الناس فى الآليات والإجراءات الديمقراطية بعد الخبرات السلبية منذ ٢٠١١ ما زال على حاله، يعنى أن الأمل فى ضمانات لحقوقنا وحرياتنا وفى التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلى والدولة القوية العادلة يظل معقودا على استعادة القبول الشعبى لبناء الديمقراطية كحل وتمكين آلياتها وإجراءاتها من إحداث مفاعيلها فى المجتمع دون انقطاعات. يعنى هذا أيضا ضرورة وجود نخب سياسية واقتصادية ومجتمعية قادرة على التفكير بواقعية فى مسارات بناء الديمقراطية، وفى سبل سلمية مبتكرة لمواجهة النزوع السلطوى الراهن، وفى التدرجية الضرورية للبناء الديمقراطى لتجنيب البلاد أخطار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وفى طرق إدارة التغيير الديمقراطى دون تجاهل لمركزية الوعد بالتنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلى، وفى إمكانات الربط بين المكتسبات الديمقراطية على أصعدة ضمانات الحقوق والحريات وبين مطالب الناس الحياتية دون استعلاء.
أستاذ علوم سياسية وباحث فى جامعة ستانفورد

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved