حين تحدث مبارك .. «ونظامه»٠

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 17 أغسطس 2014 - 8:14 ص بتوقيت القاهرة

عشية ذكرى «ما جرى فى رابعة»، مما سيظل خنجرا فى خصر الوطن، يرهقه داخليا «ودبلوماسيا» ما لم يكن محلا لتحقيق «مستقل» بالمعايير الدولية المتعارف عليها، يكشف «الحقائق» كاملة، ويحدد مسؤولية هذا الطرف «وذاك»، ويهدئ الخواطر والنفوس، ويضع مصر فى مكانتها «التى تستحق» فى هذا العالم الواسع، نقلت شاشات التلفزيون «الخطاب» الأخير لمحمد حسنى السيد مبارك، المحكوم عليه بالسجن فى قضية «فساد قصور الرئاسة»، والمتهم مع مساعديه فى قضية قتل المتظاهرين. التزامن «التلفزيونى» كان دالا، كما كان مثيرا أن الخبر «والخطاب» احتلا الصفحة الأولى من صحف «الرابع عشر من أغسطس» لا غيره.

مبارك فى جلسة المحكمة

لم يستوقفنى الخطاب «الرئاسى» للسجين ذى البدلة الزرقاء «المكوية» والشعر «الأسود»، والذى جرى التمهيد له بساعتين ونصف من الدفاع عن نظامه «الأمنى»، واتهام ٢٥ يناير، التى تشيد بها ديباجة الدستور «الجديد» بالمؤامرة (!) كما لم يستوقفنى أن يعتبر وزير داخليته «أن ما يجرى من محاكمات للشباب الذين شاركوا فى يناير دليل على أنها كانت مؤامرة». ولا حديثه عن أن «ما فعلته أجهزته الأمنية يومها لا يختلف عما تفعل الأجهزة ذاتها الآن»، ولا إشارته الضمنية إلى التنصت على هواتف الناس وتطاوله هكذا على الإعلام والإعلاميين وقوله بأن «هناك من يعرف ثمن الإعلاميين المصريين جيدا، ويعرف كيف يشتريهم». كما لم يستوقفنى طبعا حديث مبارك عن سياسته الخارجية (منبت الصلة بموضوع القضية المنظورة) وتأكيده على عدم زيارته لإسرائيل «أبدا»، رغم أنه زارها فى السادس من نوفمبر ١٩٩٥، ولا إشادته «بتعديلاته الدستورية» رغم ما نذكره جميعا من قصة المادتين ٧٦ و٧٧. فحق المتهم فى الدفاع عن نفسه مكفول ومطلق بحكم القانون. ولكن ما استوقفنى حقا من متابعة ردود فعل الناس، أن بعض الذين أيدوا بكل حماس التعديلات الدستورية الجديدة «التى تشيد ديباجتها» بـ٢٥ يناير، كانوا يصفقون «ضمنيا» لما يقوله مبارك والعادلى (!). وأن معظم من أيدوا حديث المتهمين فى تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعى، كانوا ممن اختاروا أن يضعوا صورة الرئيس الجديد «أفيتارا» لحساباتهم الشخصية، رغم أنه فى اليوم السابق مباشرة كان يصف ثورة يناير «بالعظيمة» فى مؤتمره الصحفى الروسى. (!) مما بدا معه المشهد «المسرحى» كله ضربا من «كوميديا التراجيديا» إن كان هناك فى أدبيات المسرح ما يسمى هكذا.

•••

لم أشأ أن أكتب رأيا عما شهدناه يومها على شاشات التلفزيون. فكثيرٌ من الشباب ومن شهود الأحداث كفَونى ذلك، إن على مواقع التواصل الاجتماعى (هاش تاج: #فخور_بالمشاركة_بثورة_يناير) أو فى مقالات منشورة (مقال الدكتور أبو الغار فى «المصرى اليوم»: ١٤ أغسطس نموذجا). كما أنني وجدت أنه مما لا يصح أن أذكر قراء هذه الجريدة المحترمة ببدهية أن «العمل على قلب نظام الحكم» هو هدف كل ثورة في التاريخ، بما في ذلك ثورة يوليو، ولذا فلا يصح الحديث عن تجريم ما جرى في يناير بوصفه «محاولة لقلب نظام الحكم» المشار إليها في قانون العقوبات. ولذا آثرت أن أترك هذه المساحة للتذكير ببعض ما ورد (نصا) فى «التقرير النهائى للجنة التحقيق وتقصى الحقائق بشأن الأحداث التى واكبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١» والتى كانت قد شُكلت فى فبراير ٢٠١١ فور أن أحيل أمر إدارة شئون البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة (الرابط للملخص الرسمي للتقريرهنا).

يصف التقرير ما جرى فى ٢٥ يناير مشيرا إلى مقدماتها قائلا: «إن ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ثورة اجتماعية كاملة بمعنى الكلمة إذ شكلت حدثا فاصلا بين عهدين ونقلة كبيرة بين نظامين. وكانت هناك عوامل بمثابة الوقود الذى أشعل هذه الثورة يمكن إيجازها فى: الفساد السياسى وغياب شبه كامل للحريات العامة والأساسية وصنع ديمقراطية ديكورية فقط لم يتفاعل معها الشعب المصرى، وغيبة العدالة الاجتماعية وبروز الفوارق الشاسعة بين الطبقات حتى صارت تقريبا طبقتين فقط وتخلى النظام السابق نهائيا عن مسئولياته السياسية والاجتماعية تجاه المواطنين، وانتشار الرشوة والمحسوبية حتى أصبحت لغة وثقافة متعارفا عليها يوميا فى حياة المصريين، والقمع الأمنى الذى استخدمه النظام فى تمرير مشاريعه وإسكات الأفواه المعارضة له، والتضليل الإعلامى وتفريغ الحقائق من مضمونها وتأجيج الخلافات لتوجيه الرأى العام إلى تيارات عبثية ومناحٍ مشبوهة ودخوله فى نفق الصراعات الهدامة بعيدا عن ثوابته الدينية والحضارية والثقافية الموروثة».

ينتقل التقرير بعد ذلك ليلخص ما جرى من أحداث كما يلى: (أنقل هنا النص بتعبيراته، ولغته)

• قرر الشباب الدعوة إلى التجمع والخروج للتعبير عن أمانيهم فى التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية بشكل سلمى متحضر.

• وكان النداء إلى الاشتراك فى مظاهرة احتجاجية يوم 25 يناير 2011 بميدان التحرير على شبكة المعلومات الدولية معبرا عن رغبة شعبية جارفة لم يتوقعها أكثر الداعين إلى هذه المظاهرة تفاؤلا، وكان لافتا أنها تضم جميع الطبقات والطوائف والثقافات، وانتشارها فى ربوع البلاد.

• اتسمت هذه المظاهرات بالسلمية والإصرار على إحداث التغيير، وتواصلت عبر الأيام من ٢٥ يناير ٢٠١١ إلى أن حققت هدفها يوم ١١ فبراير ٢٠١١ بتخلى رئيس النظام عن الحكم.

• لم يكن الطريق إلى تحقيق الهدف سهلا ميسورا، ولكنه كان مفروشا بالدماء والجروح والتضحيات:

• ففى يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ سارت المظاهرات سلمية فى جميع مواقع التظاهر، وقوبلت بالعنف فى السويس حيث قتل ثلاثة وأصيب خمسة من المواطنين بإطلاق النار عليهم من قبل قوات الشرطة، فكان ذلك بمثابة وقود تأجيج الثورة.

• استمرت المظاهرات فى اليومين التاليين ٢٦ و٢٧ يناير رغم محاولات تفريقها من الشرطة.

• كان يوم الجمعة ٢٨ يناير «جمعة الغضب» يوما فارقا فى تاريخ مصر بعد أن احتشد المتظاهرون فى إصرار على تغيير النظام، قابله عنف غير مسبوق من الشرطة، فسقط المئات من الشهداء، وأصيب الآلاف فى جميع الأنحاء، وانسحبت الشرطة عصر ذلك اليوم أمام الإصرار الشعبى، ونزلت القوات المسلحة إلى الشارع، وفرضت حظر التجول بعد أن تمت عمليات حرق ونهب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة.

• تواصلت المظاهرات أيام ٢٩ و٣٠ و٣١ يناير وظهر الانفلات الأمنى بصورة أوضح وعلى مدار أوسع.

• فى يوم ١ فبراير ٢٠١١ ظهرت دعوات لتأييد الرئيس مقابل المظاهرات التى تطالب برحيله.

• شهد يوم الأربعاء ٢ فبراير ٢٠١١ اعتداء مناصرى الرئيس على معارضيه باستخدام الجمال والجياد وبعض الأسلحة البيضاء ــ فيما عرف إعلاميا بموقعة الجمل ــ فوقع العديد من الضحايا والمصابين، وكان لهذا الاعتداء نتيجة سلبية على دعم الرئيس، بينما ازداد المناهضون له قوة وإصرارا على تحقيق هدفهم.

• سطعت شمس يوم ٣ فبراير ٢٠١١ كاشفة عن تماسك المتظاهرين فى ميدان التحرير وطرد مؤيدى الرئيس منه.

• وجاء يوم الجمعة ٤ فبراير ٢٠١١ معبرا عن رغبة الشعب الجامحة فى رحيل الرئيس وسميت «بجمعة الرحيل».

• بدأ من السبت ٥ فبراير ٢٠١١ أسبوع الصمود لتحقيق المطالبة بالرحيل، وواصلت المظاهرات ليلها بنهارها طوال الأيام.

• فى يوم الجمعة ١١ فبراير ٢٠١١ التى سميت «جمعة الحسم» سارعت الجماهير إلى حسم الموقف وبدأ الآلاف فى التوجه من ميدان التحرير إلى قصر الرئاسة بمصر الجديدة لإجبار الرئيس على الرحيل، فأعلن نائب الرئيس / عمر سليمان تخلى الرئيس / محمد حسنى مبارك عن الحكم وصار الرئيس السابق».

انتهى الاقتباس.. ولم تنته القضية. كما لم تنته فصول القصة الطويلة الدموية. فالنظام الذى «ترنح لا أكثر» فى فبراير، كان من الطبيعى أن يدافع نفسه ويحاول أن يعود. والذين ائتمنهم الشعب على ثورته فى انتخابات حرة (أشرفت عليها قواته المسلحة) أغوتهم أمانيهم، فظنوا أنهم وحدهم «قادرون عليها». وفرطوا فى وحدة الميدان التى كانت «سلاحا وحيدا» يومها فى مواجهة نظام قمعى فاسد مستبد. فكانت النتيجة هى ما جرى.. لنا ولهم.

•••

أيا ما كان الأمر، فبعد ثلاثة أعوام ونصف من الارتباك والتضليل تحدث مبارك ونظامه، وقرر القاضى أن يحجز القضيتين / الجنايتين (٣٦٤٢ و١٢٢٧ لسنة ٢٠١١) للحكم فى سبتمبر القادم. وبتعبير أكثر دقة من الناحيتين القانونية والسياسية: للحكم «فى وقائعهما» لا أكثر. أما «النظام» فقد كان أن حكم عليه فعليا الذين خرجوا فى يناير، وكذلك الذين وافقوا على الدستور الحالى. والأمر ذاته، بالمناسبة ينطبق على توصيف ما جرى فى يناير.

القضية إذن ليست مبارك وأعوانه، فالناس يذهبون ويحيئون. أكرر: القضية ليست مبارك وأعوانه، بل «نظام» قمعي فاسد ثار الناس عليه يومها مطالبين بتغييره، طامحين في نظام ديموقراطي معاصر. وعلينا أن ننتبه دائما إلى أن هذا هو التوصيف الحقيقي لما جرى. 

المتهم برىء حتى تثبت إدانته. هذا صحيح. ولكن عندما يقول الدستور إن ماجرى فى يناير «ثورة»، فيعنى ذلك أن النظام لم يكن بريئا، وأن إدانته واجبة.

•••

وبعد..

فتقرير لجنة تقصى الحقائق المشار إليه، والمشكلة أيام إدارة المجلس العسكرى للبلاد ليس الوحيد المطلوب أن نضعه أمامنا إن كنا جادين فى «البحث عن الحقيقة»، (ليس بدافع الانتقام من أحد ولكن كخطوة أولى تقول علوم السياسة والعدالة الانتقالية Transitional Justice أن لا بديل عنها لانتقال «سلمى» من نظام ثار الناس عليه إلى نظام معاصر يرتضونه). فهناك التقرير «الأهم» الذى لم ير النور أبدا والذى كانت لجنته قد شُكلت فى الخامس من يونيو ٢٠١٢«لجمع المعلومات والأدلة وتقصى الحقائق بشأن وقائع قتل وشروع فى قتل وإصابة المتظاهرين السلميين فى الفترة من ٢٥ يناير ٢٠١١ وحتى الثلاثين من يونيو ٢٠١٢»، وجرى تسليمه للرئيس «وقتها» محمد مرسى فى الثانى من يناير ٢٠١٣، وكذلك التقرير الذى أخشى أن تربكه الحسابات السياسية، «والتقاليد الأمنية» والخاص بكشف حقائق ما جرى بعد الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ بما فيها واقعة «فض اعتصام رابعة».

صحيح أننا قد نختلف حول المسؤول «أو المسؤولين» عما جرى فى رابعة، أو قادنا إليها: حمقُ الإخوان ومنصتهم، وحساباتهم السياسية الخاطئة، ورغبة قياداتهم المحمومة فى الحفاظ على التنظيم بإدخاله فى شرنقة «مظلوميته التاريخية»، مهما كان الثمن؛ «وطنا أو دماء»، أم رغبة شريرة فى «انتقام لا يحده قانون» لأجهزة أمنية (تحدث عنها العادلى فى مرافعته) كانت قد شعرت بأن هناك «من صفعها» فى تلك الأيام من يناير ٢٠١١.

قد نختلف هنا حول التفاصيل والتحليل والسياق، (فكثير من الصناديق السوداء ما زالت مغلقة، وكثير من الأسئلة البدهية ما زالت بلا إجابة). ولكننا لن نختلف قطعا فى أن هناك مئات من المصريين الأبرياء قضوا نحبهم فى ساعات (تقول أقل التقديرات الرسمية «أرقام المجلس القومى الرسمى لحقوق الإنسان» إنهم يزيدون على ٦٠٠، في حين تصل تقديرات أخرى بالرقم إلى ما يتجاوز الـ ٩٠٠) وتقول أوراق الأجهزة القضائية إن تحقيقا جادا ورسميا لم يحدث حتى الآن فى وقائع القتل تلك، سواء للمدنيين أو لرجال الأمن الثمانية. كما تقول شواهد التاريخ أن إهالة التراب على الحقيقة، التى هى الخطوة الأولى للإحساس بالعدالة ومن ثم المصالحة لن تكون أكثر من تمهيد التربة خصبةً للثأر والإرهاب والدماء. فلا أمن بلا عدل. هكذا يقول التاريخ. وهكذا قالها الأعرابى لخليفة المؤمنين قبل أربعة عشر قرنا كاملة: «حكمت، فعدلت، فأمنت.. فنمت يا عمر».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة

ــ ومازال الشعب يريد 

ــ عن «التصالح» مع المستقبل

ــ الحل الذي تنكر له الجميع

ــ أهمية أن «نعترف».. وأهمية أن «نعرف»

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved