مقاهٍ بجدران الذاكرة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 17 يوليه 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

تضاء المقاهى بروادها وليس بنوع القهوة فيها ونكهاتها المختلفة كما يتصور الكثيرون من المغرمين بسلاسل المطاعم والمقاهى العالمية، حيث تحول حب القهوة إلى ولع بتلك التى بنكهة الكرامل أو الفانيليا وغيرهما.

تبدو المقاهى بتنوعاتها هناك عندما كانت المقاهى أو القهاوى كما نسميها بالعامية، هى مركز لتناول الأخبار وتبادل المعلومات والأفكار وحتى الشعر والنثر أو الاستماع لحكايات كما هو مقهى الحكواتى الشهير فى المدن العربية المتنوعة والتى لم يتبق منها سوى القليل أو النادر جدا.

ينير الزوار المقاهى بوجودهم وتنوعهم، فلم تكن المقاهى مقتصرة على شريحة بل هى تجمع أو تكسر الكثير من الطبقية التى أصبحت الآن سمة المقاهى الحديثة التى يصبح فيها سعر فنجان القهوة مرادفا لسعر وجبة لعائلة فقيرة فى نفس المدينة!! كما حدثنى سائق التاكسى اليونانى ذاك عندما قال كنت استمتع بقهوتى اليونانية جدا وهو يتكئ على يونانية قهوته ــ كم للقهوة تسمياتها المختلفة التى اختلطت بالسياسة طبعا فاليونانى يرفض أن تطلب منه قهوة تركية والتركى يرفضها لو قلت له عربية.. إلخ ــ إنه كان يستمتع بها على رصيف ذاك المقهى فى آخر شارع موقف سيارات الأجرة بأقل من ربع يورو، أما الآن فهى أصبحت بأربعة يورو فى المقاهى المزينة بالمقاعد الملونة والتى غيّرت مفهوم القهوة الشعبية فى مدن العالم.

***

كان هجران تلك المقاهى التراثية تدريجيا، هجرت المقاهى متعددة النوافذ والروائح، تلك التى تعتقت فيها الذكريات والتصقت بجدرانها حكايات عدة كثير منها كان يتناول الأوضاع فى بلد ما والعالم والنوادر من القصص.. تلك المقاهى التى حافظت على الكثير مما تبقى من تراث للمقهى الشعبى فيما زحفت المقاهى الحديثة تدريجيا لتسكن ساحات المدن المعتقة ورصت طاولاتها وكراسيها المنوعة والمزركشة على قارعة الطريق.

تبقى الآن تحلق حولك فى المقاهى الحديثة فلا تسمع سوى طنين الهواتف النقالة معلنة عن وصول رسالة ما عبر الواتس آب أو الماسنجر أو الفايبر أو الانستجرام أو فيما تبقى موسيقى الأحاديث وقرع أحجار لعبة الطاولة التقليدية، هى الأصوات التى تستجم بها المقاهى المعتقة.

لا يزال هناك مكان للحديث المباشر وللنقاشات الساخنة حد توليع المكان بأكمله أو انقسام الزوار بين مؤيد ومعارض.. مقاهٍ بشخوص خاصة جدا هى الأخرى ربما رفضا للحداثة الفجة أو لترك آخر صور الزمن الجميل بتفاصيله التى كانت لا تمثل شيئا ممكن الوقوف عنده، فلا حى شعبيا دون مقهى أو أكثر يجمعون سكانه ربما فى الأغلب طبعا من الذكور الذين يعتبرون الجلوس على المقهى فى آخر النهار بعد يوم عمل شاق هو أقصى درجات الترفيه والمتعة.

***

أصبحت المقاهى عابرة الحدود والقارات، تلك التى شوهت العديد من الصور القديمة رغم أنها فى بداياتها ارتكزت على مفهوم المقهى بمعناه الشامل والواسع لا بمعناه الضيق، أى المكان الذى يمكن للمرء أن يشرب فيه فنجان قهوة أو كوبا من الشاى وهو الآخر اخترقته الحداثة فلم يعد الشاى المعتق فى أبريق قديم، ذاك الذى يحمل نكهة خاصة، بل أصبح الشاى عبارة عن كوب من الماء الساخن برفقة كيس يحمل بضع حبات مصنعة لشاى لا يحمل لا نكهة ولا طعما ولا ذكريات!!!!

فيما سميت قهوة إلا أنها لم تقتصر على تقديم القهوة التى هى ملكة المقاهى ربما لا ينافسها فى ذلك إلا كوب من الشاى الخالص.. فقد حافظت هذه القهاوى أيضا على مذاق الشاى الأصلى الذى لا يعد شايًا إلا إذا بقى فى أبريق بضع ساعات يطعم كل لحظة ببعض الماء المغلى ليتعتق هو الآخر.

فى المقاهى التاريخية العتيقة لكل شراب ومأكل طريقة للتحضير خاصة به فلا تسلق الأمور ولا تزين القهوة بصورة لقلب أو وردة ولا «فزلكة» سوى صوت الأكواب وهى ترص بعضها لبعض، لأنه فى تلك المقاهى يكتفى المتلقى بطعم ونكهة خاصة فهو ليس بحاجة لأن يستخدم كل حواسه، ومنها حاسة البصر، ليعجب بشرابه، يكفيه ذاك المذاق الخاص على وقع الأصوات والضحكات التى تهز المكان.. نفس تلك الضحكات التى اختفت من مقاهى الخمس نجوم، مقاهى الحداثة الفجة وليس الحداثة التدريجية التى تنقل مجتمعا من مكان إلى نقطة أفضل أو أكثر تقدما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved