أهمية أن« نعترف» .. وأهمية أن «نعرف»

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 17 مارس 2013 - 10:13 ص بتوقيت القاهرة

ربما تكون تلك «المرة الأولى» التى يُطرح فيها مثل هذا الموضوع، بهذه الصراحة تحت قبة منظمة أممية، تحكمها اعتبارات دبلوماسية مفهومة. إذ لم تعتد أروقة هذه المنظمات بتقاليدها وأعرافها و«ملابسها» الرسمية، تناول «المسكوت عنه»؛ والتعبير للمثقف الأكاديمى الدكتور عبدالسلام القلالى، المندوب الليبى لدى اليونسكو، والذى له كبير فضلٍ فى الترتيب للحوار وإنجاحه.

 

 

وكانت هى أيضا المرة الأولى التى أدخل فيها قصر اليونسكو فى باريس، لأدير حوارا حول أحد جوانب قضية شغلتنى منذ بداية محاولات التحول العربى نحو الديمقراطية. خاصة وقد لاحظت أنها غابت عن مجمل النقاشات والحوارات «والشجارات» على كثرتها فى تلك الدول؛ منتدياتها، وصحفها، وفضائياتها، بل ومؤسساتها الوليدة. وأعنى بها قضية «العدالة الانتقالية» أو  Transitional Justice بالإنجليزية. والذى تشير ــ كما كتبت هنا من قبل، وكما تقول تعريفات الأمم المتحدة ٢٠٠٤ إلى الآليات التى يجب أن يقوم بها مجتمع ما فى فترات الانتقال للتعامل مع «تركة تجاوزات الماضى»، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وذلك لضمان تحقيق العدالة «بمفهومها الأوسع»، ولتوفير مقتضيات الانتقال «السلمى والآمن والحقيقى» من الحكم السلطوى لنظام قمعى إلى نظام ديمقراطى حقيقى يشعر فيه المواطنون «بالعدالة».

 

••• 

 

 عن «إماطة اللثام عن الحقيقة»، كخطوة لا غنى عنها لتحول حقيقى، كان حوار اليونسكو. وبدا الموضوع فى عنوانه كما هى باريس نظريا، «ومثقفا» أكثر مما ينبغى. إلا أن كتابا صدر بالفرنسية (Les proies، Annick COJEAN)، قبل أن يترجم إلى العربية عن «جرائم القذافى الجنسية» كان كفيلا بالانتقال بالمتحدثين فورا إلى أرض الواقع وتجاربه وحقائقه. كانت «أنيك كوجان» مؤلفة الكتاب حاضرة، وهى صحفية فرنسية عملت ثلاثين عاما فى «اللوموند»، توجتها كما تقول بهذا الجهد «الاستقصائى» حول موضوع شائك فى مجتمع محافظ، يشترك مع الجانى فى ظلم الضحية، بإجبارها على الصمت. إلا أن الكتاب، وبجهد ومعاونة من إحدى المناضلات الليبيات، كما تشير مقدمته، جاء بما يصعب تصديقه من روايات وقصص لطريقة سادية ربما كانت غير مسبوقة فى التاريخ للسيطرة على شعب «بإذلاله مجتمعيا». ورغم أنه فى هذا المجتمع المحافظ قد لا توجد طريقة «للتيقن» من كل التفاصيل، خاصة وأن غرابتها وبشاعتها تتجاوز كل خيال، إلا أن شهادات مباشرة استمعنا إليها، كانت جديرة بالاعتبار. خاصة إذا جرى النظر اليها فى ضوء ما ذكره الكاتب الليبى إدريس المسمارى، من محاولات ممنهجة «للتعتيم» على ما كان يجرى طوال عقود أربعة من الاستبداد.

 

 

 تشير مقدمة الكتاب الذى حمل بالعربية عنوانا دالا «الطرائد» إلى شهادات لعدد من الضحايا، اختارت الكاتبة الفرنسية أن تضع إحداها كوثيقة أساسية، «ترفدها بقية الشهادات، تجنبا لاى تكرار قد يؤدى إلى الخروج بالموضوع عن هدفه. حيث إن الغوص أكثر فى تفاصيل «الفجور» والذى يرسم لسيناريو غير مسبوق فى تاريخ البشرية؛ ورغم اهمية ذلك لرصد الحقائق من أجل التاريخ، كان سيجعل الكتاب اقرب إلى كتب الروايات الوردية».

 

 

وتوضح الكاتبة أن ما يرد بالمتن من مفردات «قاسية»؛ إنما يعود إلى «خيار موضوعى، لأنها هكذا وردت على لسان قائلها، وأن أى محاولة للقفز على تعابيره؛ تتدخل سلبا على مجريات البحث، وعلى موضوعه. مما قد لا يخدم البحث؛ بل ويشوه رسالته».

 

 

وفى الوقت الذى تعتذر فيه مقدمة الكتاب لقارئه على قسوة ما ورد فيه، تؤكد أن خيار التزام «الحرفية» لم يكن بالضرورة سهلا، كما أن شهادات الضحايا لم تكن سهلة.

 

 

أهم ما يعنينا فى المقدمة هو إشارتها إلى أن هذه «حقائق نعرضها دون مواربة؛ رغم ارتعاد فرائص الحروف؛ لنقدم للعالم كشفا بجرائم الطغاة، وليعرفوا أن التاريخ يترصدهم، وأن كل من يحاول أن يتمادى سيكون التاريخ له بالمرصاد... وحتى لا يتكرر ذلك أبدا»

 

 

انتهى الاقتباس.. وأظن رسالته واضحة. إذ أيا ما كانت التفاصيل؛ حقيقتها، أو بشاعتها، أو ما تثيره من مشكلات مجتمعية مفهومة فى مجتمع عربى قبائلى محافظ، إلا أن تجارب السابقين تشير بوضوح إلى أن الكشف عن الحقيقة «الكاملة» على قسوتها ضرورى. كما هى بالضبط ضرورة بناء وعى جمعى «مستَنكِر» لما جرى من انتهاكات بشكل يجعل من الصعب تكرارها فى المستقبل. أخذًا فى الاعتبار أن الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثّر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على المجتمع ككلّ، وأنه لا يمكن لأمة ان ترسم طريقها نحو المستقبل دون ان تصفى حساباتها مع الماضى. وهذا لا يعنى كما قد يخشى البعض استدراج إلى شهوة «انتقام» غير محسوب قد يقودنا إلى شكل آخر من الظلم. بل يعنى «وعيا وإدراكا وفهما» ضروريا لما جرى، «وإقرارا» بما يمثله من جريمة. ومن ثم المحاسبة عليه.. أو «العفو» عنه.

 

 

 هل تذكرون كيف يحمل الجانى كفنه فى الصعيد كخطوة «لابد منها» للصَفح والمصالحة. هذه هى «الحقيقة»، وأهمية الاعتراف بها. عرفتها ثقافتنا الشعبية، كخطوة أولى للمصالحة، قبل أن تتحدث عن ذلك العلوم السياسية.

 

•••

 

وبعد ..

فحسنا فعلت هذه الجريدة أمس بنشر ما وصل إليها من «تقرير لجنة تقصى الحقائق» بعد أن كانت مهمة اللجنة رسميا قد انتهت كما قال لى أمينها العام المستشار عمر مروان بتسليم التقرير إلى رئيس الجمهورية يوم ٢ يناير٢٠١٣

 

 

وإن كان التقرير هو إحدى آليات «كشف الحقيقة» التى هى إحدى المبادئ الخمسة للعدالة الانتقالية، فكنت قد كتبت فى هذا المكان عن الموضوع قبل ثلاثة أسابيع؛ محاولا توضيح المفهوم وآلياته ومترتباته، وخطورة القفز عليه. وكيف أنه يمثل خارطة الطريق الوحيدة «فى تجارب السابقين» الكفيلة بضمان التحول الديمقراطى «السليم والآمن». وكيف أن «إماطة اللثام عن الحقيقة» هى المحطة الأولى على الخارطة ذات المحطات الخمس. وكيف أن تجارب السابقين تشير إلى أن «إحراق المراحل» بمعنى الحديث عن المصالحة «مادية كانت أو جنائية» قبل أوانها، أى قبل استيفاء المتطلبات الأربعة السابقة، بما فيها المحاسبة وإصلاح المؤسسات ذات العلاقة، من شأنه تمهيد الطريق واسعا نحو «الردة» ومن ثم الانكفاء والعودة إلى نقطة الصفر. ونُصبح كمن قيل فى وصفهم مهما ظنوا أنهم فعلوا «لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved