كان بحاجة إلى مزيد من النقاش

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأربعاء 16 مايو 2018 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

هذا مقال في غير موعده المعتاد (الأحد). ولكن ما جرى قبل يومين من إقرار برلماني «متعجل» لقانون بهذه الخطورة (لتنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية)، يجعل من المباح، أو ربما من اللازم أن نكسر القاعدة، أملا في تفعيل المادة ١٢٣ من الدستور، وأن يعيد رئيس الجمهورية «مشروع القانون» إلى البرلمان ليعطيه ما يستحق من نقاش ودراسة. 

الشيطان يكمن في التفاصيل، ومثل هذا القانون كان بحاجة إلى حوار مجتمعي حقيقي قبل إقراره

في فيلم علي عبدالخالق «جري الوحوش» ١٩٨٧، لجأ الثري نور الشريف (الذي يعاني من مرض يمنعه من الإنجاب) إلى صديقه الطبيب حسين فهمي، ليجرب معه «تجربة علمية جديدة»، ينقل بمقتضاها جزءا من مخ شخص آخر قادر على الإنجاب. وبالبحث وجد الرجل الثري ضالته عند رجل فقير (محمود عبدالعزيز) تدفعه الحاجة إلى الموافقة على التبرع بالجزء المطلوب من مخه Anterior lobe  مقابل نصف ثروة نور الشريف. مع تعهد كتابي بأن الجراحة لن تؤثر على صحته. ورغم حماس الأطراف الثلاثة، إلا أنهم لم يتمكنوا من إجرائها في مصر (لأن «القانون» لا يسمح)، فكان أن سافروا لإجرائها في الخارج. ثم كان أن فشلت التجربة كلها. بعد أن تعرض طرفاها لمضاعفات طبية خطيرة.

الحاصل إذن أن «القانون لم يسمح». ولعلي أردت التذكير هنا بأحداث الفيلم (الخيالي) للتأكيد فقط على أهمية القوانين، والحاجة إليها لحماية البشر، وصحتهم من مغامرات قد تكون غير محسوبة. ولكن «الشيطان يكمن في التفاصيل».

لا جدال إذن في الحاجة إلى قانون ينظم إجراء التجارب «العلاجية والدوائية» على المرضى. حتى لا يروح ضحيتها أصحاب الحاجة، أو «المستضعفين» كما تسميهم المواثيق الدولية التي تنظم «أخلاقيات» التجارب السريرية (أهمها «ميثاق هلسنكي»). ولكني أخشى أن «مشروع القانون» الذي أقره البرلمان المصري (في عجالة واضحة، وغير مبررة) ربما يكون قد أخطأ الهدف. 

علينا أن نتفق بداية على أننا هنا بصدد نوعين من البحوث علينا أن ندرك جيدا الفارق بينهما، وبين السياقات التي يجري فيها كل منهما:

١ــ الأبحاث العلمية الطبية التي يقوم بها الباحثون والأكاديميون بالجامعات ومراكز البحوث وتهتم بالبحث في أسباب ونتائج الأمراض وغيرها وكل ما يتصل بالصحة والمرض.

٢ــ التجارب «الدوائية» التي تجريها شركات الدواء الكبرى (ومعظمها شركات متعددة الجنسيات) للتأكد من أمان وفاعلية المنتجات الدوائية والتداخلات الطبية المستحدثة. قبل السماح بالاستخدام «التجاري» للعقار. وهناك مراحل معينة، يعرفها الاختصاصيون لابد أن يمر بها العقار المستحدث حتى يتم اعتماده. 

والحاصل باختصار أن مشروع القانون الذي بين أيدينا، والذي أقره البرلمان قبل أيام، يخلط (واقعيا) بين البحث العلمي، والتجارب السريرية والتجارب الدوائية. الأمر الذي تسبب في لَبْس بدا واضحا في كثير من التعليقات التي تناولته، فهو من الناحية العملية، ونتيجة لهذا الخلط يضع من القيود (الإدارية، والمالية، والأمنية) على البحث العلمي والأكاديمي، ما يؤدي في النهاية إلى القضاء عليه تماما، في حين لا يضع ضوابط كافية، بصياغة منضبطة قانونا (تشبه القوانين الشبيهة في العالم المتقدم) تضمن ألا يصبح المصريون بحق حقلا لتجارب شركات الدواء العالمية، طالما «دفعت الثمن»، فوق الطاولة أو تحتها. القانون ببساطة لا يواجه ما كان يمكن أن يحدث في الخفاء من جرائم (بحق صحة المصريين)، بل يقننها، في الوقت نفسه الذي وتحت لافتة الحفاظ على (صحة المصريين) يقضي على الأكاديميا المصرية، وعلى البحث العلمي الذي هو، بالتعريف «صناعة المستقبل».

 ***

دون تقييد مرفوض بلا شك للبحث العلمي، والحريات الأكاديمية، هل نحن بحاجة إلى قانون «منضبط» ينظم إجراء التجارب «العلاجية والدوائية» على المرضى، ويضمن (أكرر: يضمن) ألا يكون المصريون حقل تجارب لشركات الدواء متعددة الجنسيات؟ 

الإجابة: بالقطع نعم.

ففضلا عن ما كشفه الإعلام الغربي من فضائح لتجارب «غير أخلاقية»، لشركات دواء متعددة الجنسيات في دول العالم الثالث، أمامي تقرير مهم «للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، (وهي بالمناسبة إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تعاني من التضييق الذي فرضه علينا قانون المنظمات الأهلية الأخير) كتبته الباحثتان: علياء أبوشهبة، وهبة ونيس وهو تلخيص لدراسة مشتركة بين منظمة Public Eye، ومركز البحوث المعنية بالشركات المتعددة الجنسيات SOMO ومؤسسة Wemos 

يشير التقرير إلى حقيقة أن مصر تعد ثاني أكبر دولة إفريقية استضافة للتجارب السريرية. ومن أكثر الدول التي استخدمت كميدان لاختبارات الأدوية في الشرق الأوسط، وفقا لقاعدة بيانات معاهد الصحة الوطنية الأمريكية US NIH والسبب في لجوء شركات الأدوية العالمية متعددة الجنسيات إلى دول العالم الثالث لاستغلالها كحقل تجارب، هو انخفاض تكلفة البحث، واستعداد الكثير من المرضى للمشاركة فى مثل تلك التجارب (دون ضمانات كافية) كنتيجة طبيعية للفقر من ناحية، وقلة الوعي من ناحية أخرى.

ولعل من لم يتسن له الاطلاع على هذا التقرير شاهد التحقيق الوثائقي الجاد «فئران بشرية» الذي أعدته مؤسسة أريج للصحافة الاستقصائية، وقام به اثنان من شباب الصحفيين المصريين (عزة مغازي، وعلي السطوحي) والذي يكشف (بالصوت والصورة والوثائق)، كيف تنتهك حرمة جسد المواطن المصري الباحث عن العلاج. وكيف يمكن لمنظومة غير منضبطة، تحوم حولها الشبهات أن تسمح بممارسات غير أخلاقية (رغم وجود القانون). وكيف يصنع تفشي الفساد، وغياب الشفافية (وهما سمتان غالبتان على النظام الإداري المصري) بيئة مناسبة لأن تُمارس الشركات متعددة الجنسيات في مصر ما لا تستطيع أن تمارسه في بلدانها الأصلية، سواء بشكل مباشر، أو من خلال وكلاء محليين (ذوي نفوذ).

***

أرجوكم راجعوا القوانين ذات الصِلة في أوروبا وأمريكا. ولاحظوا كيف يراقب المجتمع المدني، الذي قتلناه، والصحافة الحرة؛ التي لا نحبها تنفيذ هذه القوانين

لست من مروجي «نظرية المؤامرة»، ولا من الداعين إلى انغلاق في عالم بات مفتوحا على مصراعيه. ولكني بحكم هذا الانفتاح، وربما من نتائجه، ومع انحيازي الكامل للحريات الأكاديمية والبحثية، والتي لا سبيل غيرها لتقدم الدول، فضلا عن البشرية جمعاء، أعرف كما يعرف غيري كيف تسن الدول (التي تحترم الحريات البحثية والأكاديمية) قوانين تحمي مواطنيها من توحش مفترض لرأس المال، وآليات السوق، التي بحكم طبيعتها لا تضع أمامها هدفا غير الربح. 

أرجوكم تمهلوا. هذه ليست شعارات اشتراكية تجاوزها التاريخ، بل أتحدث عن الآليات «القانونية» لحماية المواطنين في أكبر الدول الرأسمالية. أرجوكم راجعوا القوانين ذات الصِلة في أوروبا وأمريكا. ولاحظوا كيف يراقب المجتمع المدني (الذي قتلناه)، والصحافة الحرة (التي لا نحبها) والبرلمانات المستقلة (لا التابعة) تنفيذ هذه القوانين. 

أرجوكم ادرسوا جيدا القواعد الصارمة التي تضعها هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (الدولة الرأسمالية الأولى) لحماية المواطنين من أي تغول مفترض على حقوقهم من شركات الدواء الكبرى. 

أكرر لست من مروجي «نظرية المؤامرة»، ولا من الداعين إلى انغلاق في عالم بات مفتوحا على مصراعيه. ولكنى قرأت كما قرأ غيري ما كتب في هذا العالم «المفتوح» عن الاستعمار الجديد Neocolonialism وعن الشركات متعددة الجنسيات، والعابرة للبحار التي لا تنظر للعالم الثالث إلا بكونه أسواقا واسعة، وعمالة رخيصة، وفئران تجارب، فضلا عن سلطات محلية «متواطئة»، ومناخ محلي موات يسمح بكل ما لا تسمح به الأوضاع في البلدان الديموقراطية، ففي مجتمعات شمولية يحكمها الاستبداد لا توجد رقابة شعبية حقيقية، ولا مجتمع مدني قوي، ولا صحافة مستقلة كاشفة تفضح ممارسات هذه الشركة أو تلك والتي تكون عادة قد عرفت طريق «الحصانة الواقعية» عبر الوسطاء المحليين ذوي السلطة والنفوذ. 

انظروا حولكم جيدا، هناك مائة مثال ومثال. وقد تكون المفارقة أن ممارسات الاستغلال الاستعمارية لمثل تلك الشركات لا تفضحها عادة غير الصحافة (الحرة) في بلدانها، لا في تلك البلدان التي تنتهك حقوق مواطنيها كل يوم.

***

مشكلة القانون الرئيسه أنه يخلط (بلا مبرر)  ما بين الأبحاث العلمية من ناحية، والتجارب الدوائية من ناحية أخرى

السؤال هو: هل يوفر «مشروع القانون» الذي أقره البرلمان على عجل في جلسة الأثنين الماضي، الضمانات «الواقعية» والكافية لحماية المواطن المصري البسيط (أو المستضعف) حسب تعبيرات المواثيق الدولية ذات الصِّلة؟ دون أن يفتئت على الحريات البحثية والأكاديمية اللازمة لتقدم الدولة؟

لا أدع أن من حقي أن أقطع بالإجابة. ولكني وبدون الدخول في تفصيلات فنية وقانونية حاولت أن أتجنبها في السطور السابقة. وبعد نقاشات مطولة مع عدد من الأساتذة الأفاضل من القانونيين من ناحية، ومن المهتمين بالبحث العلمي من ناحية أخرى. وبعد أن تابعت ما دار من نقاشات (تحفَظت في معظمها على مواد القانون) وشارك فيها شخصيات أذهلني أن هناك من أهدر تحفظاتها بتلك البساطة مثل الدكاترة: حمدي السيد، ومجدي يعقوب ومحمد أبوالغار ومحمد غنيم، بل والدكتور جمال شيحة رئيس لجنة «البحث العلمي في البرلمان»، أحسب أن من حق المواطن، الذي تصدر القوانين باسمه أن يسأل: لماذا أُهدرت كل تلك الآراء؟ ولماذا لم يرسل مشروع القانون إلى الجامعات لتدرسه قبل إقراره، وهو ما كان قد تم مع مشروع مماثل عام ٢٠١٢ كانت د. نادية زخاري وزيرة البحث العلمي وقتها قد أعدته. وحدث بشأنه نقاش مجتمعي واسع سمح به المناخ السياسي المفتوح أيامها. ثم كان أن احترمت حكومة د. هشام قنديل اعتراضات المتخصصين، فلم تدفع بالمشروع إلى الجهات التشريعية. وهو الأمر الذي غابت تفاصيله؛ نقاشا مجتمعيًا واحتراما للرأي الأخر هذه المرة.

ثم، ومرة أخرى بدون الدخول في تفصيلات فنية وقانونية، ربما يظل السؤال الأبسط: لماذا لا يكون القانون المصري بشأن «التجارب الدوائية» ترجمة أمينة للقانون الأمريكي، أو لأي من القوانين الأوروبية ذات الصلة. بحيث يوفر الحماية اللازمة للمواطن المصرى من أحاييل الشركات متعددة الجنسيات، «ووكلائها» المحليين، دون أن يصادر «أمنيا»، أو إداريا الحريات الأكاديمية والبحثية التي جعلت من هذه الدول دولا متقدمة.

ربما لا يكون في (كل) مواد القانون الذي بين أيدينا شر مطلق، إلا أننا نعرف أن الشيطان يكمن في التفاصيل. فما بالك لو كانت تلك التفاصيل تتعلق بصحة المواطن المصري من ناحية، وبالتقدم العلمي من ناحية أخرى. أحسب أن هناك من الأسباب ما كان يستوجب حوارا مجتمعيا حقيقيا يسبق إقراره.

***

وبعد..

فأحسب أن من حق الباحث المصري، أن يطالب المشرع بأن يسن من القوانين ما يفتح الباب «للحريات الأكاديمية» التي لا بديل عنها للتقدم العلمي. كما أن من حق المواطن المصري، على الضفة الأخرى أن يطالب دولته بحماية لا تقل عن ما يوفره قانون هيئة الغذاء والدواء الأمريكية FDA للمواطن الأمريكى. أو مواثيق وكالة الأدوية الأوروبية EMA. والأصل، أن لا تناقض حقيقي بين الأمرين (حماية المواطن، وحرية البحث العلمي)، إذا توافرت الإرادة، والمعرفة، والشفافية. وغابت الهواجس السلطوية الأمنية «للأخ الأكبر».

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

عن الحريات الأكاديمية

تحت قبة الجامعة .. قلقٌ مشروعٌ على «المستقبل»٠

تحت قبة الجامعة (٢).. حديث المقدمات والنتائج

فئران بشرية "تحت التجربة" (تحقيق استقصائي)

أسئلة أخلاقية حول التجارب السريرية على الدواء مصر (تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved