جشع تجار أم أزمة تأقلم؟

عاصم أبو حطب
عاصم أبو حطب

آخر تحديث: الأحد 16 أبريل 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

منذ شرعت الحكومة فى برنامجها للإصلاح الاقتصادى تحت إشراف صندوق النقد الدولى، وحديث الناس لا يكف عن الارتفاع الجنونى للأسعار وطوفان التضخم الذى اجتاح الفئات الفقيرة وحولها إلى طبقات معدمة، وشوه ملامح الطبقة المتوسطة وهوى بها إلى قاع البنيان الطبقى للمجتمع. فوفق تقديرات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء، بلغ مستوى التضخم السنوى خلال الشهر الماضى حوالى 32.5%، وسجلت السلع المندرجة تحت مجموعة «الطعام والمشروبات» معدل تضخم سنوى تخطى 40% مما زاد معاناة ذوى الدخول المحدودة والمنخفضة من الغلاء وتدهور الأوضاع المعيشية. فعندما يتعلق الأمر بأسعار الغذاء، تصبح تداعيات التضخم أشد وطأة وأعمق تأثيرا لا سيما وإنفاق الأسر المصرية على السلع والخدمات الأساسية كالمواد الغذائية الضرورية يشكل حوالى 45% من إجمالى دخولها السنوية.
وأمام مشهد عبثى تؤكد فيه الحكومة باستمرار أنها على الطريق الصحيح للإصلاح الاقتصادى، وشعب يجنى ثمار هذا الاصلاح علقمًا، ويئن تحت وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة، وجدت الحكومة ضالتها فى «جشع التجار» ككبش فداء لتبرير ارتفاعات الأسعار، وأداةً مثاليةً لينفس المواطنون من خلالها عن غضبهم وتذمرهم من تردى الأحوال المعيشية، بحيث تمضى الحكومة فى برنامجها «الاقتصادى» وتتجنب تصاعد الاستياء والسخط الشعبى، وتُبقِى من ناحية أخرى على خيوط الصبر والأمل الواهية لدى المواطنين فى نتائج هذه الاصلاحات على المدى البعيد. فظهرت فى الآونة الأخيرة مبادرات شعبية متكررة وسط صمت ــ وأحيانا دعمٍ حكومى ــ وترويج إعلامى، لمقاطعة شراء بعض السلع التى ارتفعت أسعارها كمبادرة «الشعب يأمر»، و«72 ساعة ضد الغلاء»، ومؤخرا «بلاها سمك». كما دأبت الحكومة والجيش من وقت لآخر على توفير سلع غذائية بأسعار مخفضة من خلال المنافذ والجمعيات والحافلات المتنقلة. ولأن ما أفسدته السياسات الاقتصادية لا يصلحه إلا السياسات الاقتصادية؛ فإن هذه المسكنات لم تصمد طويلا أمام آليات السوق الطبيعية، وفشلت فى كبح جماح الأسعار ليجد المواطن نفسه وحيدا من جديد فى مواجهة طوفان التضخم.
***
فى السطور التالية أسعى لإلقاء الضوء على بعض النقاط التى غابت أو غُيِّبت عن المشهد، ليس دفاعا عن التجار؛ وإنما محاولةً لتشخيصٍ موضوعى للأزمة عسى أن يكون مدخلا لتعامل جاد من الحكومة مع التضخم والتخفيف من آثار برنامجها الاقتصادى على الطبقات المتضررة.
أولا: إن موقف الحكومة من هذه المبادرات يدعو للحيرة بل ويثير القلق حول الأسلوب الذى تدار به السياسات الاقتصادية. ففى الوقت الذى تهدف فيه الدولة من خلال هذه المبادرات إلى حماية المستهلك من جشع التجار، فإنها من ناحية أخرى تضر بالمنتجين والتجار وهم فئات مجتمعية تستحق أيضا الحماية والدعم الحكومى. ودعونا من هذا كله، ولنفرض جدلا أن التجار فعلا جشعون، فأين وسائل الدولة وأدواتها لمواجهة ذلك؟ إن رفضى لتحميل التجار وحدهم مسئولية التضخم المستمر فى أسعار السلع الغذاء لا ينبع فقط من عدم منطقية وسذاجة التبرير وافتقاره للدليل العلمى، وإنما لأنه يضع الحكومة هى الأخرى فى موقف حرجٍ إذا أمعن الناس عقولهم وتأملوا فى الإجراءات التى اتخذتها الحكومة من تقليص لدعم السلع والخدمات الحكومية ورفع لأسعار الكهرباء والوقود، فهل تعد هذه الإجراءات ــ بنفس منطق التفكير ــ نوعا من أنواع «جشع الحكومة»؟!
ففى ظل التضخم الذى أصاب أسعار جميع السلع والخدمات، لماذا نتوقع من تجار السلع الزراعية والغذائية الإبقاء على أسعار منتجاتهم دون تغيير؟ إن هذه الفئة هى شريحة مجتمعية تتضرر كغيرها من شرائح المجتمع من غلاء الأسعار، وقد تأثرت بلا شك بارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج الزراعى وتكلفة النقل والإيجارات من محال تجارية ومستودعات وأجور العمالة وغيرها، علاوةً على تأثر الدخل الحقيقى لهذه الشريحة كمستهلكين جراء تضخم أسعار الأخرى التى يستهلكونها. إن كل هذه العوامل والمعطيات لا شك تدفع المنتجين ومن ثم التجار إلى رفع أسعار السلع لتحقيق التوزان والمحافظة على هوامشهم الربحية والبقاء فى السوق، وهى كذلك تضعف مبررات إلقاء اللوم على التجار وحدهم وتجعلها نوعا من ذر للرماد على أعين الناس وتشتيت انتباههم عن قصور الحكومة فى مواجهة مشكلة غلاء الأسعار.
ثانيا: إن من الحقائق العلمية التى يدرسها طلاب البكالوريوس فى مقرر مبادئ الاقتصاد الزراعى هى أن أغلب أسواق السلع الزراعية تصنف ضمن ما يسمى «بأسواق المنافسة». ومن الخصائص الأساسية التى تتسم بها هذه الأسواق هى تجانس السلع (الزراعية) وكثرة عدد المنتجين أو البائعين إلى درجةٍ تجعل حصة أى منهم إلى مجموع مبيعات السوق ضئيلة جدا؛ ومن ثم تصبح قدرة التجار ــ بشكل عام ــ على التأثير فى أسعار السلع هامشيةً جدا، ولذلك لا تتعدد الأسعار بل يسود سعر واحد فى أى وقت معين. ومن الناحية الفنية، فإن سعر السلعة فى هذه الأسواق يتحدد بالتفاعل بين الطلب الكلى والعرض الكلى، حيث يقبل التاجر سعر السوق كأمر مسلم به لا يستطيع تغييره؛ لأنه لو زاد ثمن سلعته عن ذلك السعر فإن مبيعاته قد تنخفض إلى الصفر.
ثالثا: لقد كان لقرار تحرير سعر الصرف الذى اتخذته الحكومة مؤخرا فى إطار برنامجها للإصلاح الاقتصادى الدور الرئيس فى فقدان العملة المحلية نحو 50% من قيمتها منذ نوفمبر الماضى مما تسبب ذلك بشكل أساسى فى ارتفاع معدلات التضخم. وبدلا من أن تتخذ الحكومة التدابير المناسبة لحماية الطبقات الفقيرة، أو تمنح المواطنين على الأقل فرصة لالتقاط الأنفاس والتأقلم مع هذه الصدمة الاقتصادية وتأثيراتها على مستويات الأسعار، فقد قامت بتنفيذ مجموعة من الإجراءات التكميلية والتى شملت مثلا تعديلات فى منظومة الدعم، واقرار ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار المحروقات والمواد البترولية، ورفع أسعار الكهرباء والمياه، وغيرها. ومما زاد الأمر تعقيدا هى تلك الإجراءات الأخرى التى اتخذتها الحكومة لتقليل الطلب على النقد الأجنبى من خلال برامج ترشيد الاستيراد والقيود التى وضعتها على حركة النقد الأجنبى، فأقرت مثلا زيادات فى التعريفة الجمركية للمئات من المنتجات المستوردة تخطت فى حالة بعض السلع نسبة 50%. وقد آتت هذه الإجراءات أكلها «ظاهريا» ونتج عنها تراجع وقتى فى الواردات السلعية من الخارج. أما «جوهريا» فقد فاقمت هذه الإجراءات من مشاكل التجار والمستوردين وحولتها من مجرد مشكلة «سعر الدولار» إلى مشكلة نقصه وعدم توافره، والأخطر من ذلك أنها قد تسببت فى خلل فى الموازين السلعية فى السوق المحلى ونقص المعروض من السلع الغذائية كانت محصلته النهائية هى هذه الموجات التضخمية المتتالية.
***
رابعا: إن الزعم بأن خفض قيمة العملة سيحفز الصادرات ويدعم تنافسيتها فى الأسواق العالمية، هو قول حق ولكن إسقاطه على الحالة المصرية يبطله. فمع تطبيق الإجراءات الإصلاحية، فتحت الحكومة أبواب التصدير على مصراعيها، ولأننا نفتقر لقاعدة إنتاجية قوية لتغذى القطاع التصديرى وتمنح منتجاتنا قيما مضافة، فلم يكن أمام الحكومة غير التوسع فى تصدير المواد الخام والسلع الزراعية والغذائية. وكنتيجةٍ طبيعيةٍ، فقد أحدث هذا الانفتاح التصديرى غير المدروس للسلع والمنتجات الزراعية والغذائية ــ بالتزامن مع ارتفاع أسعارها أساسا بسبب العوامل السابقة ــ خللا أكبر فى توازن الأسواق الداخلية وفاقم من الأزمة وتداعياتها.
خامسا: إن من الإنصاف أن نعترف بأنه رغم الغموض الذى أحاط بالبرنامج الاقتصادى للنظام الحالى عند توليه المسئولية، فإن مجمل الحديث كان يركز على أن تحقيق النمو الاقتصادى يتطلب المرور بمرحلة انتقالية صعبة للإصلاح الاقتصادى تتضمن سياسات تقشفية سيكون لها تأثيرات على المستويات المعيشية. ولكن من المحير أنه على الرغم من دراية النظام مسبقا بالتداعيات المتوقعة لبرنامجه الاصلاحى، فقد تم توجيه ميزانية الدولة لمشروعات عملاقة استنزفت الموارد المالية وجففت السيولة فى ظل غياب شبه كامل لجدواها الاقتصادية وعوائد سياسية محدودة. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم يتم توجيه هذه الاستثمارات لدعم القطاعات الإنتاجية لتلبية الطلب المحلى، لا سيما من السلع والمنتجات الغذائية، حتى لا ينتهى بنا الأمر فى هذا الوضع المأساوى الذى يضطرنا لتقليل الواردات الغذائية فى الوقت الذى يعجز فيه الإنتاج المحلى عن تغطية الفجوة وتلبية طلب المستهلكين.
أخيرا، إن النظام وحكومته فى حاجة إلى وقفة حقيقية مع الذات والاعتراف بأن هذه المستويات غير المسبوقة من التضخم ما هى إلا حصاد سياساتهم الاقتصادية والتى وإن كانت ذوات عوائد إيجابية على المدى البعيد؛ فإن تأثيراتها على المدى القصير قد أضحت غير محتملة وتنذر بعواقب وخيمة على الاستقرار السياسى. وإذا اتفقنا أن لب المشكلة يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فإننى أكرر أن ما أفسدته السياسات الاقتصادية لا يصلحه إلا السياسات الاقتصادية. وبداية الطريق لسياسات اقتصادية تصحيحية يبدأ من الاعتراف بالأسباب الحقيقية للأزمة، والبعد عن أسلوب الحلول المؤقتة والعلاج بالمسكنات، والكف عن تسطيح الأمور وتوجيه أصابع الاتهام لأسباب هامشية (كجشع التجار). كذلك، فالمنطق الباراجماتى يستلزم من الحكومة الاعتراف ثم مكاشفة المواطنين بأن الأسعار لن تعود للوراء، وأن الأوضاع الحالية غير مؤقتة، وأن جميع السلع والخدمات تؤسس أسعارا جديدة تتناسب مع مرحلة «دولار الستة عشر جنيها» أو يزيد. وبالتالى فلا بد من إعادة النظر فى السياسات الاقتصادية الحالية وأسلوب ووتيرة تنفيذها، إلى جانب اتخاذ إجراءات موازية لتعويض المواطنين عن تراجع دخولهم الحقيقية بسبب التضخم، ومساعدتهم على التأقلم مع الوضع الاقتصادى الحالى والتكيف مع المستويات السعرية الجديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved