الحاجة للعلوم الاجتماعية فى العالم العربى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: السبت 16 أبريل 2016 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

تبقى العلوم الاجتماعية مهمشة فى العالم العربى، فى الوقت الذى لا يمكن أن تكون فيه حاجة البلدان فى هذه المنطقة لإلقاء نظرة جادة على أنفسها أكبر مما هى عليه الآن.

يركز تقرير جديد عن العلوم الاجتماعية فى العالم العربى، الكثير من الاهتمام اللازم على هذا المجال الذى غالبا ما يتم إغفاله، فضلا عن المساهمة التى يمكن أن يقدمها فى مجال السياسة العامة. تكرس الحكومات ووزارات التعليم هنا العديد من الخطب والميزانيات الضخمة، بهدف خلق «اقتصاديات المعرفة»، ولكن هذا عادة ما يأخذ شكل دعم العلوم والتكنولوجيا، فيما تحظى العلوم الاجتماعية، والتى غالبا ما تنتج معرفة مفيدة تتعلق بالجوانب المظلمة فى المجتمعات، بالقليل من الاهتمام.

العلوم الاجتماعية فى العالم العربى: أشكال الحضور، تقرير صدر عن المجلس العربى للعلوم الاجتماعية، وهى منظمة غير ربحية تأسست عام 2008، وتكرس عملها لتعزيز واقع بحوث العلوم الاجتماعية فى المنطقة، من خلال تقديم منح بحثية بشكل رئيسى. نشرت الفنار للإعلام تقريرا عن النتائج الأولية للتقرير فى عام 2015، والنسخة النهائية متوفرة الآن للطلب عبر شبكة الإنترنت.

يشدد كاتب التقرير، محمد بامية، أستاذ علم الاجتماع فى جامعة بيتسبرغ فى الولايات المتحدة، على الحاجة الملحة للفهم العلمى للواقع فى أوقات التغيير الاجتماعى الجذرى. مع ذلك، فقد وجد التقرير بأن ما يزيد عن الـ50 فى المائة من الجامعات فى المنطقة لا تمتلك برامج دراسية فى العلوم الاجتماعية.

وفقا لبامية، فإن بعض التحديات التى يواجهها علماء الاجتماع، تتضمن التفكك المؤسساتى، وعدم تشجيع الأنشطة البحثية، والقيود السياسية المفروضة على ذلك، وضعف المجتمع الفكرى الأكاديمى العربى، والجمود البيروقراطى للجامعات العربية». كما أن طلاب العلوم الاجتماعية اليوم يجهلون إلى حد كبير عمل الرواد فى هذا المجال فى بلدانهم. فى الواقع، وجد التقرير بأن العلوم الاجتماعية مشتتة للغاية بين مختلف الأجيال، واللغات، والبلدان.

من الممكن عزو جزء من هذا للتوسع الكبير فى التعليم العالى فى العالم العربى. فكما يشير التقرير، تم إنشاء 97 فى المائة من الجامعات العربية بعد العام 1950، ولم تكن 70 فى المائة من الجامعات المفتوحة اليوم موجودة قبل عام 1991. تزخر المنطقة اليوم «بجيل جديد من المؤسسات التى لا تزال فى مرحلة اكتشاف بعضها البعض».

دعونا نأمل فى أن يقوموا بذلك، لأن إنشاء شبكات مهنية قوية، وتضاعف التبادل والتعاون، والانفتاح على المنح الدراسية العالمية هى المفتاح لإجراء بحوث مبتكرة. وفى الوقت ذاته، فإن بعض التطورات الأكثر ديناميكية فى هذا المجال قد حصلت خارج الجامعات. هنالك 436 مركزا بحثيا يعمل فى العالم العربى، وهى زيادة بمقدار عشرة أضعاف ما كانت عليه فى السنوات الـ35 الماضية، وتنشر المراكز المستقلة «غير الجامعية» أكثر من نصف المجلات العلمية فى المنطقة. وتعد منظمات المجتمع المدنى، فى الوقت نفسه، الجهة التى تكلف الباحثين بإجراء الكثير من البحوث فى العلوم الاجتماعية التطبيقية والجهة الرئيسية التى تقوم بتوظيف خريجى العلوم الاجتماعية.

كما شمل التقرير أيضا مسحا لـ244 مجلة دورية ترتبط ارتباطا مباشرا بالعلوم الاجتماعية فى عام 2014 «مقابل وجود تسع دوريات فقط عام 1961». وقد وجد المسح بأن مواضيع البحث الأكثر شيوعا فى السنوات الأخيرة هى: الربيع العربى، والديمقراطية، والمواطنة والمجتمع المدنى، وقضايا المرأة، وقضايا الشباب، والتحضر، والتنمية، والإسلام، والتكنولوجيات الحديثة.
وشملت النتائج الأخرى الإحصائية التى تفيد بأن 6 فى المائة فقط من المواد عبارة عن بحوث مشتركة «فى حين أن المتوسط العالمى لذلك يبلغ نحو 50 فى المائة»، وأن ما لا يزيد عن نصف المقالات قد حددت تقنيات ومنهجيات البحث المتبعة. فى الواقع، وجد التقرير أن فى بحوث العلوم الاجتماعية المنشورة «ضعفا نسبيا فى المنهجيات المتعلقة بالعمل الميدانى، من قبيل الملاحظات والمقابلات، والمقارنات ودراسات الحالة».

●●●
وفى استطلاع يتعلق بوسائل الإعلام، وجد التقرير بأن ما نسبته 3.3 فى المائة فقط من الصحف تحتوى على مواد تتعلق بالعلوم الاجتماعية وأن هناك عرضا قليلا جدا، عبر جميع وسائل الإعلام لمواد العلوم الاجتماعية، فضلا عن استخدام المقاربات التحليلية الخاصة بها.

لطالما كان يُنظر للعلوم الاجتماعية على أنها ذات قيمة فقط عندما تساهم فى التحديث والتنمية – وبالتالى هيمنت أقسام الاقتصاد – وتعرضت أقسام التاريخ الاجتماعى والأنثروبولوجيا لمزيد من التهميش. وعلاوة على ذلك، فإنه يتم النظر للأنثروبولوجيا بعين الريبة بسبب ارتباطه بالاستعمار. وفى بلدان مثل المملكة العربية السعودية والمغرب، غالبا ما تعتبر السلطات أقسام علم الاجتماع كبؤر محتملة للاشتراكية والماركسية.
وخلص التقرير إلى أن العلوم الاجتماعية «لا تزدهر ببساطة بفضل الثروة الوطنية، بل بفضل الاهتمام العام والحرية النسبية لإجراء البحوث.» وهذا أمر مشجع، لأنه يشير كما لو أن بإمكان استثمارات صغيرة أن تكون ذات تأثير كبير.

يمكن أن يكون الاستثمار فى مجال العلوم الاجتماعية ذو «تكلفة منخفضة جدا»، بحسب سيتينى شامى، المديرة العامة لمجلس البحوث الاجتماعية. لكنها تشدد على أن «العلوم الاجتماعية الجيدة مسألة صعبة بشكل لا يصدق».

قالت شامى موضحة «يمكن الكثير من التعليم الجيد فى العلوم الاجتماعية الناس من تأطير ما ندرسه وجعله ذى مغزى. لا يمكنك أن تكتفى بأخذ النظرية التى ظهرت فى أحد الأماكن وفى أحد الأوقات فحسب، لتقوم بدراسة السياق الخاص بك على ضوء تلك النظرية.» وأضافت بأن «هذا هو السبب الذى يجعل القيام ببحوث فى العلوم الاجتماعية أصعب بكثير من البحث العلمى». لذا يتوجب أن يتم تعليم الطلاب، بحسب شامى «كيفية استجواب المفاهيم والتفكير فيها كما لو كانت فرضيات عمل، بدلا عن كونها قواعد ومبادئ علمية. لكن الجامعات فى المنطقة تقوم بعمل سيئ حقا فيما يخص تدريس مناهج البحث. «إن كل المواضيع التى تهم علماء الاجتماع تقريبا مثيرة للجدل». قالت شامى «إن قضايا الإثنيات، والهوية والعرق إشكالية للغاية فى كل بلد من بلدان المنطقة – وتعد تقريبا من المحرمات. وأى شىء يتعلق بالمشاركة السياسية والحكم أمر شائك على الدوام، فضلا عن قضايا السياسة الخارجية، والجنس والدين، تقريبا كل شىء تعمل عليه سيكون إشكاليا».

●●●
لذا فإن من المغرى، ومن غير المألوف، أن تكرر ببساطة «السياسات والأيديولوجيات الحاكمة»، كما يشير التقرير، بدلا عن الانخراط فى نقد الافتراضات التى تقوم عليها. ففى المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تركز 19 فى المائة من الأوراق البحثية البالغ عددها 1037 من عام 1970 وحتى العام 2013 على «الجريمة، والانحراف، والانضباط الاجتماعى»، فيما تناول بحثان فقط الصراع الاجتماعى وبحثت ورقة بحثية واحدة فى موضوع توظيف الأجانب – وهى إحدى الظواهر الاجتماعية الأكثر أهمية فى تاريخ البلاد الحديث. وكما جاء فى التقرير «لا يوجد سبب وجيه لهذه المعدلات العالية من الدراسات المتعلقة بعلم الجريمة فى مجتمع يتمتع بمعدل جريمة منخفض نسبيا».

بسبب ردة الفعل التى من الممكن أن يواجهونها، فإن كثيرا من علماء الاجتماع «يلجأون إلى العلموية والتشويش من خلال استخدام الكثير من المصطلحات والأرقام، بدلا عن النظر للعلوم الاجتماعية كوسيلة لإقامة حوار مع المجتمع»، بحسب شامى. ولهذا السبب، فبالإضافة لإقامة روابط مع صناع السياسات والمجتمع المدنى، فمن المهم أيضا خلق «مساحات مهنية ومؤتمرات أكاديمية آمنة، حيث يمكنك التحدث كأكاديمى».
وفى الوقت الذى تمر فيه المنطقة بتحولات موجعة وعنيفة، حيث تتعرض فيه كل نظمها السياسية، وعقائدها الدينية، وافتراضاتها الثقافية للاهتزاز، فإن الأمر أكثر إلحاحا من أى وقت مضى للاعتراف بمساهمة الرؤى العلمية الأصيلة والموضوعية فى التغييرات التى تجرى. بإمكان العلوم الاجتماعية أن تعمل كمرآة، ولكن المجتمعات بحاجة لأن ترغب فى أن تمعن النظر إليها.
  
أورسولا ليندسى


ينشر بالاتفاق مع مجلة الفنار للإعلام

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved