اجتثاث النيوليبرالية قبل إصلاح الاقتصاد

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 16 فبراير 2022 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

عبر الأسابيع الثلاثة الماضية أبرزنا فى عدة مقالات ما تموج به الساحة الدولية، بما فيها الوطن العربى، من نقاشات بشأن النظام الاقتصادى الرأسمالى العولمى المتأزم وضرورة الانتقال إلى نظام اقتصادى آخر.
لكن ذلك النظام الاقتصادى، الذى قاد العالم إلى أزمات مالية، وإلى بطالة مذلة لمئات الملايين من البشر، وإلى إفقار متنامٍ لبلايين البشر، وإلى تدمير لدولة الرعاية الاجتماعية، وإضعاف متعمد ممنهج لقوى المجتمعات المدنية السياسية والنقابية والحقوقية، وراءه فكر سياسى برر قيام ذلك النظام الاقتصادى فكريا، وخطط بطرق شيطانية لإقناع بلايين البشر بتفوق ذلك النظام على ما سبقه من أنظمة رأسمالية واشتراكية، ورفع رايات البشائر الكاذبة بقرب انتقال الإنسانية إلى حالات الوفرة فى النعم المادية والسلام فى العلاقات الاجتماعية والطبقية، ولم يترك وعودا مشرقة إلا وكذب بشأن قرب تحققها.
إذا لم يحلل ذلك الفكر السياسى البائس، وينقد بقوة وعمق، ويتخلى العالم كله، بما فيه الوطن العربى، عن تبنيه بجنون وطفولة رعناء، فإن كل جهود تعديل مسار النظام الاقتصادى الحالى ستذهب هباءً.
دعنا نذكر القارئ والقارئة بأن الفكر السياسى الذى نعنيه هو المسمى، بشطارة التلاعب بالألفاظ، الفكر النيوليبرالى. وقصة تكونه ومسار صيرورته عبر الستين سنة من عمره يجب على الأخص أن يعرفها ويعيها بعمق شباب المستقبل الذين يراد لهم أن يظلوا تائهين فى عوالم الثقافة العولمية المسطحة البليدة التى تركزت فى ملاعب كرة القدم ومسارح الصخب الموسيقى والغنائى الغريزى.
ذاك الفكر بدأ أساسا بوضع ملامحه العامة من خلال تكوين جمعية جبل بليرين عام 1947 من قبل مؤسسها فريدرك فون هايك وبحضور مفكرين اقتصاديين انتهازيين من أمثال العرّاب ملتون فريدمان. آنذاك بشرت الجمعية بأن فلسفتها السياسية الجديدة ستنتشر خلال عشر سنوات لتعم العالم كله. وبالفعل، ما إن سمعت طبقة الأغنياء فى العالم الغربى بالطرح الجديد حتى تبنته بكل أصناف الدعم.
بدأت المساعدات المالية السخية تنهمر على كليات الاقتصاد الجامعية الأمريكية والأوروبية التى تدرس الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة، وذلك لتخريج الألوف من الاقتصاديين المؤمنين بتلك الفلسفة والمرشحين لتولى أعلى المناصب فى الحكومات والمؤسسات الدولية من مثل البنك الدولى.
وانهمرت المساعدات المالية لعشرات مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية من أجل وضع تلك الفلسفة فى قوالب عملية تنفيذية، وبصور مقنعة تستسيغها الجماهير وتؤدى فى الوقت نفسه إلى وجود مادة جاهزة لوسائل الإعلام التابعة أصلا لجهات ولأفراد من مالكى المليارات.
وبدأت كبريات منصات الإعلام تهمش وجود كل من يرفض الفلسفة الجديدة وتسبغ كل صفات المديح والتعظيم على من يتبناها من كتاب وأساتذة الاقتصاد.
وفى بضع سنوات وجدت آلاف الكتب والصحف ومحطات التلفزيون والإذاعة التى تنادى بتقليص وجود النقابات إلى الحد الأدنى، وبتخصيص كل الخدمات الصحية والتربوية العامة وغيرها مما كان ملكا عاما، وبزيادة الضرائب على المواطنين وتخفيضها على الأغنياء. فجأة وبسرعة البرق رأينا العالم يتغير ويتجه إلى كل ما هو ظالم وغير أخلاقى وغير مؤمن بالقيم، وإلى تدمير كل ما اقتنعت به البشرية عبر مئات القرون السابقة.
فجأة حل الفساد المستشرى، وتشوهت الممارسات الديمقراطية، وانتشر الجنون اليمينى المتطرف، وعم الظلام محل الأنوار، وتراجع كل فكر أمام الهجمة الفكرية الجديدة، وبدأت مؤسسات العائلة والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية والحقوقية تصبح تحت رحمة الاستخبارات.
أما نحن العرب، من المقلدين دوما، التابعين طوعا، المنبهرين ببلادة، فإننا دخلنا كالعادة فى تلك الحلقة الجهنمية دون تمحيص أو تبصر.
إذن، لا بد من اجتثاث ذلك الفكر السياسى النيوليبرالى من عقول الناس ومن مجتمعاتهم كشرط لنجاح أى انتقال من نظام اقتصادى ظالم إلى اقتصاد أخلاقى تشاركى عادل. المعركة كبيرة وطويلة، وهى تتحدى شباب وشابات المستقبل فى الوطن العربى كما فى العالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved