كوابيس المجال التواصلى الرقمى القادمة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 16 يناير 2019 - 11:40 م بتوقيت القاهرة

منذ عام 1960 تنبأ الأكاديمى المنظِّر مارشال مكلوهان بأن مجىء وازدياد التواصل الإلكترونى سينقل الأنظمة والعلاقات الاجتماعية من حالة الاستقرار والسلام المدنى إلى حالة رجوع ما سماها بالعلاقات القبلية. وقد قصد بالعلاقات القبلية التفريخ المتنامى لأشكال لا حصر لها من الولاءات والاصطفافات الفرعية الملائمة لفكر وثقافة وسلوك وتحيزات ونفسية الفرد.
وكنتيجة لتلك الولاءات والانحيازات فى السياسة والعادات والملبس والميول الجنسية والتعصبات العرقية والتشنجات الدينية والمذهبية والسلوكيات العدوانية تجاه الأطفال أو المرأة أو الآخرين.. إلخ، ستنتج صراعات وتراجعات للانسجام والتناغم الإنسانى، ما سيؤدى إلى أزمة خطرة فى هويات المجتمعات. ستتراجع الهوية المجتمعية والوطنية الجامعة وستسود الهويات المفرقة المجزئة.
ما أخاف مارشال مكلوهان هو أن بروز تلك العلاقات القبلية والوصول إلى أزمة الهوية الوطنية سيدمران الأسس التى قامت عليها الأنظمة الديمقراطية فى الغرب، وسيقودان إلى علاقات العنف واجتثاث الآخر. وهذا سيعنى تراجعا كبيرا فى الحياة السياسية وصعود كبير للبربرية والتوحش.
اليوم بدأت نذر تلك النبوءة تظهر فى الغرب وبدأ العديد من الباحثين الاجتماعيين وكتاب السياسة يتحدثون عن اقتراب مجتمعاتهم من معركة وجودية بين تكنولوجيا التواصل الإلكترونى الاجتماعى، بتنظيماتها وممارساتها الحالية المليئة بالسلبيات، وبين النظام الديمقراطى برمته. ويعطون كأمثلة على نذر تلك المعركة الوجودية ظاهرة الصعود المذهل للحركات والأحزاب الشعبوية المعادية للأجانب وللاجئين السياسيين ولكل أنواع التسامح مع الآخر، وظاهرة الممارسات النرجسية السياسية من قبل بعض القادة السياسيين المنتخبين من أمثال الرئيس الأمريكى الحالى.
***
فإذا كان الغرب يواجه إشكالية مع التواصل الرقمى الذى أطلق عنان العواطف والسلوكيات المريضة فى الحياة السياسية، فإننا نستطيع أن نتصور المخاطر الهائلة التى تنتظرنا، نحن فى المجتمعات العربية التى تعانى من صراعات تاريخية متخيلة ومن انقسامات مذهبية طائفية ومن تركيبات سكانية معقدة ومن أعداء خارجيين يؤججون الانقسامات ليل نهار لتفتيت هذه الأمة ومن استعمالات انتهازية داخلية لإدخال مجتمعاتنا فى خلافات أيديولوجية وصراعات ولائية ضيقة لصالح هذا الحكم أو هذه القبيلة أو ذلك الدين والمذهب أو ذاك الحزب.
يكفى أن يقوم بضعة أشخاص أو تقوم جهة استخباراتية فى الكيان الصهيونى أو بعض الدول الطامعة فى ثرواتنا بنشر شتم وتجريح للمذهب الشيعى، على سبيل المثال، والإيعاز الوهمى بأن ذلك صادر عن جهة سنية، ثم اتباع ذلك بمناوشات وهمية لشتم وتجريح المذهب السنى، على سبيل المثال أيضا، حتى تشتعل نار مدمرة من الحقد والكراهية والادعاءات التاريخية العبثية فى طول وعرض وسائل التواصل الإلكترونى العربية.
لسنا نضرب مثلا نظريا هنا، فهذا يحدث يوميا ويشاهد ويقرأ يوميا فى التبادلات الطفولية البليدة عبر وسائل التواصل الرقمى، بأشكاله المختلفة، خصوصا وأن نسبة من يملكون ويستعملون تلك الوسائل من أفراد الشعوب العربية قد وصلت إلى أكثر من أربعين فى المائة كمعدل وسطى.
وبالطبع فإن انتشار الأمية والضعف الشديد فى أسس ومناهج ووسائل التعليم فى مدارسنا وجامعاتنا، والذى ينتج عنه تسطيح فى الثقافة وعجز فى القدرة على الشك والتمحيص والتحليل والرجوع إلى مصادر المعلومات الموثوقة لا يمكن إلا أن تؤدى جميعها إلى تسهيل مهمة أى كذاب أو حاقد على هذه الأمة.
ولعل أكبر انتكاس، بسبب كل ذلك، سيكون لمحاولات انتقال المجتمعات العربية إلى أنظمة ديمقراطية معقولة فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فإذا كان لدى الغرب مخاوف فإن لدينا كوابيس مرعبة.
فى الغرب يتحدثون عن وضع ضوابط قانونية وتنظيمية من قبل سلطات الدول ومن قبل الشركات المالكة لتلك الرسائل التواصلية الرقمية، على شرط ألا يتم ذلك على حساب مبدأ الحرية الفردية المعقولة والحريات المدنية، وبالطبع فلن تكون الضوابط والتنظيمات فيها شطط بسبب قوة مؤسسات المجتمع المدنى لديهم.
ولكن ماذا عنا نحن العرب؟ نحن حتما سنحتاج لضوابط ولتنظيم الموضوع برمته، وهو أمر سيكون مليئا بالمخاطر إذا قامت به أنظمة سياسية غير ديمقراطية وإذا لم يكن هناك تشارك فاعل من مؤسسات المجتمع المدنى.
ولكن، بالنسبة لنا، سنحتاج إلى خطوات كثيرة تصحيحية ذاتية فى المجال الرقمى قبل أن ننتقل إلى مرحلة الضوابط والتنظيمات القانونية.
هذا ما سنحاول أن ندخل فى تفاصيله، كوجهة نظر ومقترحات، فى مقال قادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved