«الساعة الأخيرة».. محاكمة راعى البقر!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 13 سبتمبر 2018 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

تُسعدنى كثيرا تلك التجارب المسرحية التى تقدمها فرق البيت الفنى للمسرح، حيث أكتشف فى كل مرة مواهب حقيقية فى كل فروع العمل، ولكن يظل السؤال بلا إجابة وهو:

لماذا لا تقدم هذه المسرحيات فى الجامعات والمحافظات؟ وكيف تظل أسيرة قاعات صغيرة لجمهور محدود؟
لدينا إنتاج فنى وثقافى جيد، ولكننا نعانى من تسويقه ووصوله إلى جماهير أوسع وأكبر، مع أن بروتوكولا مقترحا بين وزارة الثقافة من جهة، ووزارتى التعليم العالى والشباب من جهة أخرى، يمكن أن يحل هذه الفزورة، أو هكذا أعتقد!

من نوعية تلك العروض المميزة مسرحية قدمها مسرح الغد بالبالون بعنوان «الساعة الأخيرة»، من كتابة عيسى جمال الدين، ومن إخراج ناصر عبدالمنعم. أدهشنى تماسك النص لكاتب أقرأ اسمه لأول مرة، عرفت أنه فاز عن النص بجائزة ساويرس.

أما العرض فهو مكثف ومؤثر، خطه المحورى هو تخيل الساعة الأخيرة التى عاشها الطيار الذى ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما، نستعيد معه فى يوم عيد ميلاده ــ الذى يقضيه وحيدا مؤرقا ــ كل ماضيه، ثم تدريجيا يتحول الأمر إلى محاكمة للعقلية التى أديرت بها الحرب العالمية الثانية، ومحاكمة منطق راعى البقر الذى يلجأ إلى القوة بلا ندم أو تفكير، وهو منطق ما زال سائدا ومتواصلا بأشكال أخرى حتى اليوم، ولكن إلقاء قنبلتى هيروشيما ونجازاكى فى العام 1945، كان التجلى الأكثر بشاعة لهذه السياسة.

يحدثنا التاريخ عن بول تبتس الطيار الأمريكى الذى ألقى قنبلة «الولد الصغير» على هيروشيما، وزميله تشارليز سوينى الذى ألقى قنبلة «الرجل البدين» على ناجازاكى، الأول مات شيخا عجوزا فى العام 2007، ولم يُنقل عنه أى ندم عما فعل، بحجة أنه كان يؤدى واجبه، والثانى مات فى 2004، وقد حصل الاثنان على أوسمة كثيرة، ولكن النص يجعل طيار هيروشيما (الذى حمل فى المسرحية اسم توماس ويلسون) معذبا بماضيه، يعيش منبوذا مع تمثاله النصفى، مهجورا من زوجته وطفله، ثم يرسم ملامح طفولة غير سوية، جعلته يسمم والده السكير، ويتنافس مع الطيار تشارليز على الأفضلية والترقية.

كما جعل النص توماس يلتقى فتاة يابانية كفيفة، بعد إلقاء قنبلته، وهو أفضل مشاهد المسرحية بأداء شريف صبحى فى دور توماس، وبأداء الممثلة البارعة سامية عاطف التى لعبت دور الفتاة، ولا يعيب المشهد سوى مباشرة الحوار الأخير حول انتصار اليابان اقتصاديا على أمريكا، وهو أمر لم يكن يتصوره أحد عام 1945.
نجح المخرج ناصر عبدالمنعم فى إدارة ممثلية، واستخدم ببراعة ستارين شفافين أحدهما لا ينزاح أبدا، لتبدو من خلفه تفاصيل الماضى، سواء فيما يتعلق بالخيبة الأسرية، أو بعملية إنتاج القنبلة النووية، بينما تجاوز المخرج بذكاء خشبة المسرح، ليصبح الممثلون أمام الجمهور مباشرة فى أكثر مشهدين من حيث التأثير العاطفى وهما:
لقاء الطيار مع الفتاة اليابانية الكفيفة، ومغادرة زوجة توماس له، احتجاجا على ما فعله فى هيروشيما.

لا تغفل المسرحية مع ذلك منطق الذين رأوا أن إلقاء القنبلة حسم الحرب، ومنع مقتل آلاف الضحايا، فيما لو استمرت المعركة لسنوات، ولكن المسرحية تعتبر ذلك منطقا فاسدا، لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، كما هناك من اقترح التخويف بالقنبلة وآثارها بدلا من استخدامها، ولكن المعنى الأهم للعرض هو إعادة تعريف فكرة النصر؛ إذ يبدو الطيار الذى حصد أعلى الأوسمة، مهزوما ومحطما، كسب النياشين وخسر نفسه، وهكذا يصبح من المستحيل الدفاع عن قتل آلاف المدنيين، وإزالة مدن من الوجود، ويصبح من المنطقى تماما أن تنتهى المسرحية بتنكيس العلم الأمريكى، لا رفعه على الصوارى.

قوة هذه المسرحية فى أنها تجعل الضمير وحده ميزانا لإنسانيتنا، تضعه فى المرتبة الأعلى فوق كل شىء، لا يمكن أن تدمر الآخرين دون أن تدمر نفسك، والواجب الذى يعلو كل واجب، هو واجبنا تجاه الإنسان، فى كل زمان ومكان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved