فلنجتمع لنفترق أكثر!!

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 13 يناير 2019 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

حرك ربطة عنقه محاولا التخفيف من ضغطها على رقبته، خرج من غرفة الاجتماعات وعاد مجددا أخذ رشفة من كوب الماء وأخرى من القهوة.. لم يكن يعرف ما الذى يحدث وكأن الأكسجين قد بدأ فى التناقص التدريجى من تلك الغرفة وانتشر إحساس بالاختناق.. إنه اجتماعه الأخير ليوم عمل طويل تخللته سلسلة من الاجتماعات.. فرح فرح طفل عندما أعلنوا عن نهاية الاجتماع ملتزمين بموعد محدد لمتابعة ما دار به فى الأسبوع القادم.. لم يكترث للعبارة الأخيرة ولم يجعلها تقلل من فرحته كطفل وهو يغادر تلك الغرفة التى تحولت إلى شكل من أشكال غرف التعذيب فى السجون العربية الكثيرة والممتدة من المحيط إلى الخليج!
***
مشى فى الممر الطويل حتى مكتبه، بل كان كمن يجرى فى لهفة لموعد غرام.. حلق بعيدا وهو يحدث نفسه بما سيفعله بعد يوم «التعذيب» يقصد العمل الطويل.. فقد تحولت مبانى العمل إلى شكل من أشكال العبودية بتنوعاتها عندما تساقطت قيمة الفرد فيها وراح يقال له سنستبدلك بالأرخص وربما ليس فقط من نستطيع أن نوفر عن طريقه بل الآخر الذى سيقبل بأى معاملة حتى لا يعود إلى طوابير العاطلين الطويلة تلك الأخرى أصبحت أكبر من الحسابات البنكية والأصفار لدى كبار المستثمرين والتجار والقلة التى تملك فى مقابل الأغلبية التى تجرى على لقمة عيشها بتنوع اللقمة فقد لا تكون كلها مجرد رغيف خبز أو عيش بل ربما بالمحافظة على المستوى الاجتماعى الذى أصبح هو مفتاح الحل والربط فى مجتمعات أعمتها المظاهر والاستهلاك المغيت.
***
هو لا يكترث لكل ذلك، بل انشغل بالتفكير فى كثرة الاجتماعات التى هو مضطر لأن يكون بها حتى أنهم يعقدون اجتماعا للتحضير لاجتماع آخر.. كثرت الاجتماعات وقلت الجمعة يردد.. كلما جلسنا أكثر للحديث اختلفنا وابتعدنا أكثر.. أصبح الإنجاز فى يوم العمل الطويل هو عدد الاجتماعات التى تم عقدها وعدد المشاركين فيها حتى ولو كانوا بأجسادهم بينما عقولهم ومشاعرهم فهى فى مكان آخر فى معظم الأوقات.. يبقى ذاك الذى عينه على المناصب دوما كعين الصقر يسلط على فريسته وهنا هو المدير الذى ما إن يجلس على الكرسى الوفير حتى تتقمصه شخصية أخرى ويلتصق به ويصبح مبهورا بقدرته على الأمر والنهى.. ثقافة تعمقت ليس فى مجتمعاتنا فقط بل وفى كل المجتمعات رغم أن بعضها يحاول التخلص منها والابتعاد عن ذاك الإحساس بالاستقرار التام.
***
راح هو يسجل ملاحظاته فى كل اجتماع وعلى طرف الصفحة عدد الاجتماعات فى ذلك اليوم أو الأسبوع.. قسم الصفحة إلى مربعات يضع كل زميل أو زميلة له فيها ويصف كيفية مشاركتها «الفعالة» فى الاجتماعات عبر الشخبطة على الأوراق أو محاولة وضع جهاز الكمبيوتر أمامها متظاهرة بأنها تدون محضر الاجتماع أو النقاط الهامة فيه وهى ملتهية بلعبة هنا أو قراءة التعليقات على صفحات الفنانين ومتابعة القضايا والخلافات التى ترفعها تلك الفنانة الخليجية المتواضعة الصوت التى صدقت أنها أم كلثوم الخليج فراحت تتحكم فى العباد وتكيل الشتائم للجميع.. ككل الظواهر التى طفت على سطح مياه الخليج خلال العشرين سنة الأخيرة لا تشبه ناس هذه البلدان البسطاء... ولا تمثل إلا شكل من أشكال التشويه الذى يصل حد الشك فى أنه متعمد مع سبق الإصرار لتحويل البشر فى هذه الدول إلى مجرد أرقام لا ناقة لها ولا جمل فيما القائمون على الأمور ينهبون ماء البحر والأكسجين بالهواء !
***
فكر أن يكتب مقالا عن ما الذى فعلته الاجتماعات من إفساد بيئة العمل بل ربما تعطيلها فكثرتها تعنى قلة العمل والإنجاز والاكتفاء بتحويل عقد الاجتماع إلى إنجاز يضاف إلى قائمة الإنجازات التى تحسب لذاك المدير أو حتى الوزير!
والاجتماعات هى مرض جديد ابتلت به ليس الحكومات فقط بل المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدنى.
***
راح هو يرسم صورا بدت وكأنها لقطات من أفلام الخيال العلمى، سرح بخياله ولأن الاجتماعات تخنقه فكر أن يحضر أنبوبة أكسجين معه لكل اجتماع ونصح زملاءه وزميلاته بذلك.. مع الوقت وكلما أبحر هو فى تهيؤاته المرتبطة بالاجتماعات، كلما زاد التناقز عليه بأنه قد أصيب بالهوس أم أنه هوس الاجتماعات.. ارحمونا يرحمكم الله ولعل أحدهم ينشر نظرية جديدة حول أماكن العالم الخالية من الاجتماعات كتلك الخالية من التدخين!
كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved