ذكريات سينمائية

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 12 يوليه 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

كان حوار الكبار مملا لا شيء فيه يثيرنا نحن الصغار، نعم تترامى إلى أسماعنا بعض حكاياتهم عنا وهذا يخصنا، لكننا لم نشعر أبدا بالرغبة في المشاركة في الحديث لتصحيح بعض المبالغات عن شقاوتنا وعدم سماعنا الكلام، حتى لو شعرنا بهذه الرغبة ما كان الأهل ليسمحون لنا بالتدخل. الحل إذن هو أن نوقف لعب الشايب والميكانو والهولاهوب بعد أن مللنا منها، ونخرج إلى الشرفة لنتسلى مع بعض أحداث الفيلم الذي تعرضه سينما الجزيرة في شارع الملك عبد العزيز آل سعود بحي المنيل. كنا نتابع المشاهد التي تتوالى أمامنا بصعوبة فالمسافة بين شرفة المنزل الذي يسكنه صديق والدي الحميم وبين شاشة السينما كانت "تُزغلل" أبصارنا بوجوه مشاهير النجوم الذين نحبهم، لكنها لم تكن تسمح لنا بأن نعايش أحداث الفيلم كما ينبغي، كنا أيضا قليلا ما نميز مفردات الحوار لكن معارك الأبطال وموسيقي الأوبريتات الاستعراضية كان يأتينا صوتها بوضوح. ما هذا الذي تقولينه.. لم تكونوا تتابعون الأحداث جيدا ولا تسمعون الحوار جيدا فماذا كان يمتعكم إذن في الفُرجَة على سينما الجزيرة ؟ السينما عموما مصدر من مصادر الخيال، وفي فترة الستينيات - التي عشتها- كان للسينما دور كبير جدا في إنعاش خيالنا فالمصادر الأخرى كانت محدودة . وحين كنا نجلس مجموعة من الصبيان والبنات في الشرفة مشدوهين أمام الفيلم الذي يجسد رواية قرأناها ليوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس أو يوسف إدريس كانت عقولنا تطير، كنا نقارن بين السطور وبين المَشاهد ونضاهي بين الأحداث وبين السيناريو وننبهر بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ . أذكر أنني أول مرة شاهدت فيها فيلم نادية المأخوذ عن قصة يوسف السباعي وصعدت فيها مع سعاد حسني جبال الألب وهي تراسل حبيبها متقمصة شخصية أختها منى، داخلني إحساس بأنني أمتلك الدنيا جميعا .

****
كانت سينما الجزيرة التي تقع إلى الخلف من بيت الأسرة هي إحدى دور أربع للسينما موجودة في حي المنيل الذي قضيت فيه سنوات عمري الأولى، أما دور السينما الثلاث الأخرى فكانت هي سينما جرين التي تقع في شارع المنيل الرئيسي علي امتداد رصيف بيت الأسرة، وسينما الروضة التي كان يطل عليها هذا البيت، وسينما ميراندا غير البعيدة عنه، حتي بدا بيتنا وكأنه محاصر من جهاته الأربع بدور السينما، ويا له من حصار! كان بعض هذه السينمات يعرض ثلاثة أفلام في الحفلة الواحدة: فيلمان عربيان وفيلم أجنبي، وكان من المسموح لي بأن أذهب من وقت لآخر بصحبة الأخ الأكبر إلى هذه السينمات لأشاهد فيلما كوميديا مثل أنا وهو وهي أو فيلما تربويا مثل صوت الموسيقى أو غيرهما. هكذا تَفَتَح وعينا نحن الصغار بفضل هذا الفن وبفعله، وأصبحت السينما جزءا مهما جدا من تشكيل شخصياتنا، كان ارتياد السينما مكافأة على النتائج الدراسية الجيدة وفسحة نهاية الأسبوع ومتعة أيام الأعياد ومفاجأة الزيادة الجديدة في دخل الأسرة، وكان العقاب من الذهاب إليها موجعا فكنا نتحاشاه. كان يكمل هذا الحضور السينمائي القوي في حي المنيل وجود مكتبة عامة ضخمة في الروضة، وكانت الاستعارة منها ميسرة ومن خلالها تعرفنا علي كل الأسماء الكبيرة في عالم الأدب والثقافة. من رحم هذه البيئة خَرَجَت شريحة من شرائح الطبقة الوسطي حافَظَت في المجمل علي استوائها النفسي رغم كل التغيرات التي تعاقبت على مصرنا طيلة ما يزيد علي نصف قرن، تعلَمت أن الفن متعة والقراءة ثروة والجمال قيمة. شريحة لم تفقد خيالها ولا تقوقعت داخله لكنه أعانها بالتأكيد على احتمال واقع أكثره صعب الاحتمال .
***
اختفت السينمات الأربع تباعا، تحولت المساحة التي كانت تشغلها سينما الجزيرة إلي نادٍ اجتماعي، ونشأ مكان سينما الروضة محل استهلاكي كبير، وصارت سينما جرين خرابا يغلقها باب حديدي صدئ، وها هي سينما ميراندا التي أصبحت لاحقا سينما فاتن حمامة تجري إزالتها. ذَهَبَت السينمات الأربع بوهجها ورسالتها ودورها في تشكيل وجدان سكان الحي ممن لا يقدرون بالضرورة على أسعار تذاكر السينما في المولات التجارية ولا تعنيهم النظارات ثلاثية الأبعاد. هذا الدور شديد الأهمية لا تعوضه سينما جالاكسي التي تأسست في وقت لاحق وتضم ست شاشات للعرض فالمقارنة ظالمة، سينما فاتن حمامة وحدها كان عدد مقاعدها قرابة الألف مقعد وأسعارها في المتناول. وما حدث في المنيل حدث من قبل في حي شعبي بامتياز كحي السيدة زينب مع دور سينما الهلال وإيزيس والأهلي والشرق، وهذا خطير جدا. فكل كتلة خرسانية تنشأ علي أنقاض دار للسينما تسحب من رصيد المصريين من الخيال والفن وقيمة الجمال، ولو خضعنا لقانون العرض والطلب فستختفي المكتبات ودور السينما والمسرح وتزحف المحلات التجارية والأبراج السكنية. فهل نحن نريد مقاومة التطرّف أم نحن نريد محاصرة الفكر والفن اللذين يقاومان التطرّف؟ الدولة عليها مسؤولية ورأس المال عليه مسؤولية في هذا الشأن فالتطرف يستهدف الكافة.
***
مررت بالقرب من بيت صديق والدي الذي كان يطل علي سينما الجزيرة، سألت أربعينيا يبيع بعض المثلجات في كشك خشبي: هل كانت توجد هنا سينما اسمها الجزيرة ؟ هز رأسه نافيا وقال بل توجد سينما من ورائنا اسمها جالاكسي، تركته وذهبت. هل إن قُدّر لأحدهم أن يكتب يوما عن تاريخ حي المنيل سيذكر أن هذا الحي كان يحتضن أربع دور رائعة للسينما منها الصيفي ومنها الشتوي ؟ أم ستسقط مثل هذه التفاصيل "غير المهمة " من رواية التاريخ ؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved