مصر فهمت ترامب ولم تفهم أمريكا

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الأحد 10 سبتمبر 2017 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

مصر فهمت ترامب لأن ترامب سهل وواضح ويتحدث بأسلوب شعبوى بسيط فى أحاديثه غير المكتوبة ــ وما أكثرها ــ ومثلها أيضا تعليقاته اليومية فى التغريدات التى يكتبها بنفسه ويرفض قيام أحد بمراجعتها. لقد أفصح ترامب عن نفسه وسياسته بوضوح شديد وبكلام بسيط.
فأمريكا ــ فى رأيه ــ لا يجب أن تنشغل بترميم الدول الفاشلة وإعادة بناء الشعوب Nation Building وإهدار مواردها فى أمور مثل تقوية أواصر الديمقراطية وحقوق الإنسان وهى الأمور التى تعوق علاقتها مع الدول الحليفة والصديقة بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن أنه لن يحاضر الدول فى كيفية حكمها لشعوبها أى فلتفعل فى شعوبها ما تشاء. وقد أراح ذلك الكثير من الديكتاتوريات فى العالم فقد حان الوقت لقيام علاقات مريحة مع أمريكا.
ولكن أمريكا ليست ترامب وليست رئيس الجمهورية؛ فنظامها يقوم على الفصل بين السلطات وعلى توازنات بين الرئيس والكونجرس والمحكمة العليا وأيضا القوى الأخرى التى تؤثر فى الرأى العام مثل المجتمع المدنى ورجال المال والأعمال والإعلام وجماعات الضغط (اللوبى).. وسياسة الولايات المتحدة فى الداخل والخارج هى محصلة التجاذبات بين هذه القوى.
وقد دُهش الكثيرون فى مصر لما ظنوا أنه تناقضات فى السياسة الأمريكية، وظن البعض أن ترامب قد غير سياسته تجاه مصر والرئيس السيسى، نظرا لأن ترامب قد أبدى منذ حملته الانتخابية إعجابا شديدا بالرئيس السيسى ثم استقبله فى البيت الأبيض فى بداية ولايته بحميمية شديدة، ثم مضى يتحدث بحماس عن التعاون معه ومع قادة الشرق الأوسط لتشكيل تحالف ضد المنظمات الإرهابية والإسلامية، وأعطى إيحاءات بأنه يعتبر الإخوان المسلمين يندرجون ضمن هذه المنظمات مما أقنع الناس أن تحولا كاملا عن سياسة الرئيس السابق أوباما تجاه مصر قد حدث، ولذلك عندما وجدوا أن أمريكا تعلن فجأة عن تخفيض المعونة بمقدار 290 مليون دولار (تجميد 195 مليونا وإلغاء 95 مليونا) وربط ذلك بحقوق الإنسان وبالتضييق على المجتمع المدنى من خلال القانون الجديد الذى ينظم عمل الجمعيات الأهلية، فقد تم تفسير ذلك على أنه تغيير فى سياسة ترامب تجاه مصر ورئيسها، وقد تعاظمت الدهشة عندما اتصل ترامب بالسيسى بعد ذلك بيومين ليؤكد له متانة العلاقات المصرية ــ الأمريكية التى تستند إلى أسس استراتيجية، وأعرب عن حرصه على مواصلة تطوير العلاقات الثنائية فكيف يتم تطوير العلاقات من خلال حجب المعونات؟ لقد فسر البعض هذه المكالمة بتفسيرات مختلفة يصل بعضها إلى حد السخف، حيث قيل إن ترامب اتصل ليصلح ما أفسده وزير خارجيته، وفى الحقيقة أن ترامب لم يتغير ولم يغير سياسته وما زال مؤيدا بقوة للحكم فى مصر ومعجبا بما حققه السيسى فى مجال الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب. وكل ذلك لايزال كما هو، وكل ما هنالك أن أمريكا ليست ترامب كما أسلفنا وأننا فى مصر لم نقدر دور الكونجرس والحزبين الرئيسيين «الجمهورى» و«الديمقراطى». فقد تنامت منذ فترة داخل الحزبين وبالتالى داخل الكونجرس المطالبة بتطبيق نصوص القانون الأمريكى الذى يحتم على الإدارة الأمريكية أن تحجب 15% من قيمة المعونة لحين تمكن الدول المتلقية من إثبات أنها تحرز تقدما فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، لذا سارع ترامب بإصدار أمر رئاسى Executive order بوضع مبلغ 195 مليون دولار (التى تعادل 15%) فى حساب خاص وتأجيل تسليمه لمصر لحين تمكنها من تنفيذ هذا الشرط (إثبات إحراز تقدم فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان) وأتمنى أن نحرز هذا التقدم دون الحاجة للضغوط الأمريكية وأن نجد الوسيلة المناسبة لعدم الربط بينهما.
***
إننا فى عالمنا النامى ــ خاصة الشق العربى منه ــ لا يمكننا تصور عجز الرئيس عن إنفاذ إرادته، ولا نفهم كيف يمكن أن ينساق إلى سياسة تمليها عليه تيارات داخلية مثل البرلمان وقوى المجتمع المدنى والإعلام؟
وفى هذا السياق يمكننا تذكر واقعة «ووترجيت» فى أمريكا فى أوائل السبعينيات التى أدت فى النهاية إلى الإطاحة بالرئيس نيكسون والتى تتلخص فى قيام بعض الأفراد بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطى المعارض ثم ما ثبت بوجود صلة بينهم وبين الحزب الجمهورى الحاكم ونيكسون شخصيا.
لم يستوعب العقل العربى أن تؤدى حادثة (تافهة) مثل تلك إلى الإطاحة برئيس الجمهورية، ولم يستوعب من الأساس فكرة اللجوء إلى التجسس على الحزب المعارض، لقد كتبت إحدى الصحف اللبنانية فى ذلك الوقت مقالا ساخرا وجه فيه الكاتب سؤالا لنيكسون يقول فيه: أين إلغاء الأحزاب لصالح الشعب؟ وذلك لان أجهزتنا تتعامل بمنتهى السهولة مع أحزاب المعارضة بحيث يمكنها تحويلها إلى أحزاب موالية أو على الأقل تفجيرها من الداخل.
***
أعود إلى ترامب فأؤكد مرة أخرى أن سياسته تجاه مصر لم تتغير بل مصر من الدول القلائل التى نجح فى تحسين علاقته معها على عكس الكثير من الدول الأخرى الصديقة والحليفة التى تدنت العلاقة معها مثل ألمانيا وباكستان وفنزويلا.
وبالرغم من رغبة ترامب الشديدة فى التقارب من روسيا إلا أن القوى الأخرى التى تعمل على الساحة الأمريكية لم تمكنه من ذلك بل دفعته باتجاه التصعيد مع موسكو حتى وصل الأمر إلى إغلاق القنصلية الروسية فى سان فرانسيسكو وتبادل طرد الدبلوماسيين. هذا بالرغم من أن بوتين لعب على ورقة ترامب بوضوح شديد وسانده فى حملته الانتخابية من خلال اختراق المواقع الالكترونية للحزب الجمهورى والتجسس على البريد الالكترونى لهيلارى كلينتون لصالح ترامب، وبالرغم أيضا مما يقال عن إن موسكو لديها مستمسكات ضد ترامب تحتوى على أسرار مالية وانتخابية وجنسية تحرج ترامب (النسخة العربية من جريدة لوموند ديبلوماتيك بتاريخ 2/9/2017).
وبالرغم من ذلك فلم يستطع ترامب تحقيق رغبته فى التقارب مع موسكو بل وجد نفسه مضطرا إلى فرض موجة جديدة من العقوبات عليها، وقد فهمت موسكو الوضع تماما وبدأت فى التصرف بما تمليه عليها هذه الحقائق، وأمل أن نتصرف ــ نحن أيضا ــ بما تمليه علينا الحقائق وألا تقتصر علاقتنا بأمريكا على ترامب وحده إن أردنا أن نثبت أركان هذه العلاقات.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved