جدلية الحقيقة ونصف الحقيقة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 10 مايو 2018 - 12:15 ص بتوقيت القاهرة

منذ فترة قرأت فى طائرة سفر مقالا عن أن أول وأفدح ضحايا الحروب والصراعات هى الحقيقة. ذلك أن كل الأطراف المتحاربة ستسعى للتلاعب بها وستحاول إخفاءها من أجل تحقيق الانتصار المطلوب.
لكن ما لفت انتباهى هو وقوع كاتب المقال فى نفس المحظور، فلقد أشار بأصابع الاتهام والنقد إلى ثلاث جهات، عربية وإقليمية ودولية، تمارس طمس ما اعتبرها الكاتب حقائق تتعلق بالصراعات العسكرية والسياسية فيما بين تلك الجهات الثلاث كمحور واحد وبين من يواجهونها ويتصدون لها من جهات عربية وإقليمية ودولية أخرى.
فالكاتب لم يترك شاردة ولا واردة، مما تحاول طمسه من حقائق تلك الجهات الثلاث المتهمة، إلا وذكرها وفندها. لكنه وقع فى مطب الموضوعية المنحازة الانتقائية عندما لم يذكر ممارسة واحدة من ممارسات طمس الحقائق من قبل المعسكر المقابل، الذى على ما يبدو، إما يناصره وإما ــ على الأغلب ــ يخاف من عواقب نقده وإظهار عيوبه.
هنا ــ مع الأسف ــ يسقط قناع البعض من المثقفين العرب: فهم يفتشون عن حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات الغير، وفى الوقت نفسه هم يمارسون إخفاء وطمس حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات المعسكرات التى ينتمون إليها أو يخافون من بطشها المادى والمعنوى.

***
الآن، فى أجواء الظلام الذى يخيم على مجتمعات أمة العرب، سواء بسبب ظاهرة الاستقطابات المذهبية الطائفية الحادة، أو بسبب ما تمليه الصراعات السياسية والأمنية المجنونة، أو بسبب الرعب والخوف الذى يملأ أرض العرب بسبب تنامى العنف والإرهاب وما يولده من ردود أفعال من قبل هذه الجهة أو تلك ــ فى مثل هذه الأجواء تمارس مجموعة متنامية من مثقفى وكتاب وناشطى السياسة فى بلاد العرب نفس الظاهرة المجروحة التى نتحدث عنها.
تتعدد الأسباب، ولكن ظاهرة طمس الحقيقة تمارسها أعداد متنامية من الجهات والقوى والقيادات يوما بعد يوم، حتى أصبح التلفيق والكذب وإعطاء نصف الحقيقة وإخفاء النصف الآخر عادة مترسخة فى حياتنا العربية الحالية. وأصبحت الكثير من الكتابات والخطابات السمعية والبصرية ومواعظ المساجد والمآتم وأحاديث المجالس تمارس تلك العادة وتبرر ممارستها بألف حجة وحجة.
وإذا كان كاتب المقال قد ركز على الحروب، وما تقود إليه من ضياع للحقيقة، فان الأسباب الأخرى التى تنخر الجسد العربى لا تقل أهمية. هناك الفساد وانعدام الشفافية وغياب المحاسبة والهيمنة على البرلمانات وندرة الشرعية الديموقراطية وغيرها كثير. جميعها تقود إلى ضياع الحقيقة أو تزويرها أو إلباسها ألف قناع وقناع، من مثل القناع الدينى أو العرقى أو القبلى أو التاريخى.
أصبح إخفاء الحقيقة وممارسة الكذب وباء ينتشر فى ساحات الحروب البينية العربية، وفى بؤر الصراعات التى تتواجد فيها الجماعات الإرهابية الملتحفة برداء دين الإسلام زورا وبهتانا، وفى معارك الخلافات السياسية العربية والإقليمية المتناغمة مع مخططات الخارج بالوكالة.
أصبح إخفاء الحقيقة وتزوير التاريخ سمة من سمات النظر فى مواضيع قومية، كالموضوع الفلسطينى. أصبح تزوير التاريخ مقبولا عند البعض، وأصبحت الضحية المنهكة هى الملامة والغاصب المجرم الصهيونى هو الضحية. فى عالم الكذب يضيع الشرف وتختفى المروءة ويهيمن التوحش الحيوانى. لا حاجة هنا لوجود حرب، إذ يكفى وجود الانتهازية الطامعة فى العطايا والمراكز والوجاهه.
بل انتقل مرض إخفاء الحقيقة إلى أنظمة التواصل الاجتماعى فى بلاد العرب فى شكل سكوت عن جريمة أو تعاطف غير صادق أو دفاع تبريرى عن جرائم، وماعاد الإنسان يعرف من يصدق ومن يكذب. ذلك أن ممارسة كشف طمس الحقيقة عند الغير، وعدم التعرض لطمس الحقيقة عند الجماعة أو القبيلة أو الحكومة أو علماء الدين، من الذين ينتمى لهم المتحدث، أصبحا كارثة اجتماعية فى بلاد العرب.
فى الماضى قرأت قولا لأحدهم بأنه لا توجد حقيقة فى الواقع، وإنما الذى يوجد دوما هو نصف الحقيقة. لقد احتقرت قائل ذلك القول فى حينه. اليوم أسأل نفسى: هل كان صاحب ذلك القول يقرأ ما ستصل إلية أمة العرب فى أيامنا التى نعيش؟
لكن هناك قولا شهيرا بأن الحقيقة تحرر من يطلبها ولا يقبل أنصاف الحقائق بديلا عنها. من حسن حظ هذه الأمة أنه لايزال فيها من يمارسون تلك الفضيلة.

مفكر عربى من البحرين
dramfakhro@gmail.com

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved