مصر من النافذة

حسين عبدالبصير
حسين عبدالبصير

آخر تحديث: الأحد 10 فبراير 2019 - 11:55 م بتوقيت القاهرة

مصر هى أول كلمة فى كتاب التاريخ وأهم موقع فى كتاب الجغرافيا.
مصر هى مهد وأم وأرض الحضارات؛ ففيها وُلد التاريخ والحضارة البشرية منذ آلاف السنين، وأينما تذهب تجد حتما جزءا ما من تاريخ مصر ومن تاريخ العالم؛ لذا فلن نكون مخطئين إذا قلنا إن مصر والتاريخ توأمان متماثلان فى كل شىء. فقد ظهرت الحضارة مبكرا فى وادى النيل ودلتاه. ويجد المرء أنه من الصعب اختيار نقطة زمنية معينة يسرد منها قصة التاريخ المصري؛ فمصر موغلة فى القدم قدم الزمن نفسه. وإذا تغاضينا عن البداية المبكرة لظهور الإنسان فى مصر منذ نحو 37 ألف عام قبل الآن، فإن معرفة المصرى حرفة الزراعة المنظمة والمستقرة على ضفاف نهر النيل فى الألف السادس قبل الميلاد تعد هى البداية الحقيقية لنشأة الحضارة المصرية التى سوف تستمر آلاف السنين. وشكل النيل المصدر الأساسى لنشأة هذه الحضارة التى جعلت «أبو التاريخ» المؤرخ «هيرودوت» يصف مصر بـ«هبة النيل»، وهو وصف لا يخلو من منطقية ووجاهة، غير أن صحة وصفه يجب أن تكون «مصر هبة النيل والمصريين»؛ فلولا المصريون ما نشأت الحضارة المصرية على ضفاف النهر الذى يمر بدول إفريقية عديدة لم تنشأ بها حضارات بلغت ما وصلت إليه مصر من تقدم واستمرارية وازدهار. ويمتاز الإنسان المصرى، صاحب ومشيد هذه الحضارة الفريدة، بحب العمل وإتقانه والدأب والصبر والصمت والهدوء والحلم وتحمل الشدائد والإيمان والتسامح.
***
وتقع مصر فى الركن الشمالى الشرقى من إفريقيا وتمتد فى جنوب غرب آسيا من خلال سيناء، بوابة مصر الشرقية والمدخل الرئيس للغزاة إلى مصر عبر التاريخ. ومصر دولة محورية فى منطقتها، وقريبة من جنوب أوروبا وجنوب غرب آسيا وتطل على البحر المتوسط والبحر الأحمر، وهى قلب العالم العربى والراعية والمحافظة على الإسلام الوسطى، وهى دولة رائدة فى العالم النامى وتبشر بنمو اقتصادى واعد. وجعل هذا الموقع الجغرافى المتميز منها ملتقى للحضارات وبوتقة لتلاقح الثقافات قديما وحديثا، وجعل منها مطمعا للغزاة والطامعين والمحتلين عبر تاريخها الطويل.
وتعددت الأسماء والصفات التى أُطلقت على مصر. وجاء اسم مصر فى الإنجليزية «إيجيبت» من التعبير المصرى القديم «حوت كا بتاح» («معبدقرين بتاح«)، وهو اسم معبد مصرى خُصص للمعبود المصرى «بتاح»، إله مدينة «منف». بينما اُشتق اسم مصر، من كلمة مصرية قديمة «مجر» («الحد«) وانتقل إلى اللغات السامية ومنها إلى العربية، ومنها جاء اسم «المصريون». وينتمى المصريون إلى الجنسين السامى والحامى. ويطلق المصريون على مدينة القاهرة، العاصمة، «مصر»، مختزلين اسم بلدهم فى عاصمتهم. والمصريون الحاليون أغلبهم من الفلاحين (أهل الدلتا أو الوجه البحرى) والصعايدة (أهل الصعيد أو مصر العليا) والبدو (فى سيناء والصحراوين الشرقية والغربية) والنوبيين (أهل أسوان ومحيطها الممتد) وغيرهم. ويغلب على السكان حرفة الزراعة والتجارة، ودخلت مصر العصر الصناعى فى القرن التاسع عشر الميلادى، واقتربت من آفاق التكنولوجيا وعصر المعلوماتية مع نهايات القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين الميلاديين. ويخدم ويحكم هؤلاء جميعا جهاز كبير من موظفى الحكومة المدنيين والعسكريين ويقف على قمته رئيس الدولة. وأغلب المصريين من المسلمين السنة، ونسبة كبيرة من المسيحيين، مع قلة من اليهود، مع وجود بعض أتباع الديانات والعقائد والمذاهب والشعائر الأخرى.
***
وتبدأ قصة الحضارة المصرية المكتوبة فى نحو عام 3000 قبل الميلاد، حين أبدعت مصر القديمة الكتابة وأدخلت العالم إلى دنيا التدوين فراكمت الخبرة الإنسانية والتراثية وحافظت على الذاكرة البشرية من الضياع. وهذا العصر هو عصر المركزية والذى سوف يستمر طويلا ويصبح سمة غالبة للإدارة المصرية عبر تاريخها خصوصا فى عصور القوة، وقد يتحول إلى عقبة فى مسيرة التنمية والقضاء على المركزية فى صنع القرار.
وبتوحيد مصر العليا (الصعيد) ومصر السفلى (الدلتا) فى مملكة واحدة وقيام الدولة المركزية على يد الملك «مينا»، استقرت فى هذه الفترة قيم ومعايير سوف تحكم الدولة المصرية وتصبغ الشخصية المصرية. وبعد هذا التاريخ المبكر الذى اشتمل على الأسرتين الأولى والثانية، دخلت مصر عصر الدولة القديمة، «عصر بناة الأهرام»، وفيه شيد المصريون الأهرام فى الجيزة وسقارة ودهشور وأبورواش وأبوصير وغيرها، ونحتوا تمثال «أبوالهول» فوق هضبة أهرام الجيزة للملك خفرع صاحب الهرم الثانى بالجيزة. وتقف الآثار المصرية شامخة شاهدا ودليلا على عبقرية الأداء وروعة الإنجاز والإعجاز المعمارى والهندسى والفلكى والإدارى الخاص بالمصريين. وبعد ذلك العصر الذهبى، مرت مصر بفترة اضمحلال، خرجت بعدها قوية إلى عصر الدولة الوسطى حين وصل الأدب المصرى القديم إلى القمة، «عصر الأدب الكلاسيكى». وبعد هذا العصر، مرت مصر بأصعب محنة عرفتها فى تاريخها الفرعونى، ألا وهى احتلال أرض مصر من قبل قبائل آسيوية، «الهكسوس»، («حكام الأراضى الوعرة»)، تسللت بطرق سلمية فى غفلة من الزمن إلى مصر عبر حدودها الشرقية وبسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من مصر حين ضعفت. وبعد كفاح طويل ومرير، استطاع الملك «أحمس الأول» طرد الهكسوس من مصر ودفعهم إلى فلسطين. وبتحرير مصر منهم، نشأت الدولة الحديثة، العصر الذهبى الثالث والأخير فى مصر الفرعونية، واحدة من أروع فترات الازدهار فى تاريخ الحضارة الفرعونية. وخلال هذا العصر، اتبعت مصر سياسة خارجية جديدة جاءت كرد فعل على محنة احتلال الهكسوس لأرض مصر. وقامت على التوسع فى الفتوحات الخارجية وضم العديد من الممالك إلى زمرة مصر، وهو «عصر الإمبراطورية» الفرعونية. ويعد الفرعون تحتمس الثالث هو مهندس الإمبراطورية المصرية فى آسيا وإفريقيا. ومن بين أشهر الملوك الفراعنة فى هذا العصر، أحمس الأول وحتشبسوت وتحتمس الثالث وأمنحتب الثالث وأخناتون وتوت عنخ آمون وسيتى الأول ورمسيس الثانى وغيرهم.
***
وبعد ذلك العصر، دخلت «عصر الانتقال الثالث» وفيه ساد التوتر والانقسام واللا مركزية. ثم جاء العصر المتأخر وحكمت فيه مصر أسرات مصرية، مع بعض فترات الاحتلال الفارسى إلى أن جاء الإسكندر الأكبر، وعلى يديه وعلى أيدى خلفائه الملوك البطالمة، تحولت مصر إلى مملكة إغريقية ــ بطلمية. وبهزيمة الملكة البطلمية كليوباترا السابعة على يد الرومان، صارت مصر جزءا من الإمبراطورية الرومانية حتى فتحها العرب المسلمون وأصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية إلى أن أسس محمد على باشا وخلفاؤه دولة مصر الحديثة على الطراز الأوروبى حتى قامت 23 يوليو 1952 وأنهت حكم الأسرة والملكية من تاريخ مصر.
ومن خلال هذا العرض الموجز لتاريخ مصر يتضح لنا أن الصفة المميزة الجامعة المانعة التى تصف التجربة الحضارية المصرية عبر تاريخها الإبداعى الطويل، هى الاستمرارية والتواصل. فالحضارة المصرية تمتاز بالتواصل والتراكم، لا بالانقطاع وبعدم الانتاج الحضارى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved