المثقَّف فى الدولة العربية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 8 يناير 2015 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

يدخل المثقّف العربى الآن فى الحقبة الرابعة من تاريخ الأدوار التى لعبها فى الدولة العربية الحديثة.

فى الحقبة الأولى، مباشرة بعد الاستقلال من الاحتلال الاستعمارى، لعب دور المدافع عن مبادئ وتطبيقات السياسة الليبرالية بما تأتى به من ديمقراطية دستورية مشابهة إلى حد كبير للمارسة الليبرالية الأوروبية. لقد كانت حقبة افتتان العبد المتحرُّر الجديد بأطروحات سيده القديم. إبّان تلك الحقبة لعب المثقّف دور الموجّه والمجدّد، وكان دورا مقدّرا ومحترما من قبل العامّة.

فى الحقبة الثانية، عندما صعد نجم الدولة العربية الوطنية الشعبوية بشعاراتها القومية الثورية واليسارية، انغمس المثقف بكليَّته فى النضال السياسى وحاول أن يلعب دور المثقف العضوى الغرامشى الملتزم بقضايا أمته ووطنه. فى هذه الحقبة اقترب المثقف من السلطة إلى حد خطر وتناغمت أدواره مع أهداف السلطة إلى حدود الذَّوبان فى داخل كئوسها، وعندما وعت العامة أخطاء وخطايا الدولة الشعبوية انعكس ذلك سلبا على نظرة العامة للمثقف العربى ومكانته.

فى الحقبة الثالثة، التى أعقبت تراجعات الدولة الوطنية الشعبوية، والتى حلت محلها الدولة المرتبطة بمشيئة الخارج سياسيا، والمتبنية لليبرالية الاقتصاد الرأسمالى العولمى المتوحش المنفلت من الالتزامات الاجتماعية، ضعف دور المثقف العربى الذى رأت فيه تلك الدولة المنخورة بالفساد مصدر إزعاج ونقد لتوجّهاتها فى السياسة والاقتصاد. إبّان تلك الحقبة تهمَش دور المثقّف العربى العضوى خصوصا بعد أن نجحت بعض قوى الحكم فى تبنّى أيديولوجيات مغوية تستهوى الطبقة المتوسطة الميسورة، الأمر الذى جعل مثقفّى تلك الطبقة ينبرون لترويج تلك الأيديولوجيات التى فى محصِّلتها تسوغ تحّكم القلة بكل أنواع الثروة والوجاهة والامتيازات وتسوغ ارتباطاتها النفعيّة بالخارج على حساب الاستقلال الوطنى والقومى. إبّان تلك الفترة كانت الاحتجاجات مسموحا لها، مهما كان صوتها عاليا، طالما أنها كانت لا تؤدى إلى إزاحة أحد أو تغيير وضع.

•••

اليوم، بعد ثورات وحراكات الربيع العربى، بانتصاراته وهزائمه، تدخل الدولة العربية، ومعها المثقّف العربى، حقبة رابعة، بالغة التعقيد والمخاطر. بعد الحقبة الثالثة التى همش فيها المثقف العربى واستسلم للعب دور المتفرج، وأحيانا الانتهازى الزَّبون، تطرح الحقبة الرابعة على المثقّف العربى سؤالا لا مفرّ منه: أيُّ دور يجب أن يلعبه المثّقف العربى إبان هذه الحقبة المليئة بالغموض والمفاجآت والآمال واليأس؟.

يحتاج هذا السؤال إلى أن يجاب عليه من قبل المثقّفين العرب، وفى اعتقادى أن الإجابة يجب أن تأخذ الآتى بعين الاعتبار:

أولا - هناك توجُّه جديد لدى الكثير من الدول العربية للاعتماد فى الخارج على شركات ومراكز العلاقات العامة، خصوصا الغربية منها، وفى الداخل على شبكات إعلامية رسمية أو خاصة مشتراة وذلك من أجل تسويق شرعية وصحة أيديولوجياتها فى السياسة والاقتصاد. وهى فى هذه الحالة تشعر بأنها ليست فى حاجة للمثقّف كما كان الحال فى الماضى.

هذه التوجهات الجديدة، مع التهميش الذى تميّزت به الحقبة الثالثة، يجعل المثقّف العربى خارج السلطة وخارج الشعب، وهو وضع بالغ السُّوء بالنسبة للعب دوره التاريخى فى نهضة مجتمعه.

ثانيا - على ضوء ذلك فإن هناك حاجة ملحّة لتأسيس علاقة جديدة متينة بالشعب، وخصوصا بشبابه وشاباته، وهى علاقات تحتاج أن تبنى على أسس إبداعية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الإفرازات الشعورية والتغيرات النفسية عند الجماهير التى حملتها نسائم الربيع العربى منذ أربع سنوات.

فى الماضى كثر الحديث عن تجسير الفجوة بين المثقّف العربى والسلطة، أما الآن، فبعد ما طرحته جموع غفيرة من الشعب العربى فى ميادين أكبر العواصم العربية من شعارات وأحلام وتطلُعات، فإن تجسير الفجوة بين المثقف العربى والشعب يجب أن تكون له الأولوية.

ثالثا - على ضوء تجارب الماضى يحتاج المثقف العربى لأن يحتفظ بمسافة معقولة بينه وبين السلطة تسمح له قدرا ضروريا من الاستقلالية فى التحليل والنقد والمساهمة فى إنتاج فكر يتطور باستمرار. هذه المسافة لن تعنى العيش فى صراعات ومماحكات مع سلطة الدولة وإنما لممارسة الحرية التى بدونها لن يوجد فكر إبداعى مفيد.

رابعا - إن كل ذلك يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع وجود فئة خاصة من المثقفين التى تركز على توليد وحمل المعرفة اللازمة لصياغة رؤية عربية جديدة للعالم وللمجتمع العربى وللإنسان العربى تقترح بديلا عن الوضع القائم المتردى الذى تعيشة الأمة حاليا بسبب تكالب المحن والإحن على مسيرة الربيع الذى أرادته لنفسها منذ أربع سنوات. إنها انحياز للحقيقة بدلا من الانحياز لمطالب القوة والعبث السياسى. إنها حمل لمهمة خلق المستقبل وليس فقط الاكتفاء بتحليل ونقد ما يجرى فى الحاضر.

لن تكون مهام المثقف العربى فى الحقبة الرابعة سهلة، ولكنه قدر يجب أن يقبله ويحمل مسئولياته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved