تلك الصداقة النادرة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 7 أكتوبر 2018 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

لم يتوقف القصف والقذائف تبدو كالمطر والجنود يعبرون بهو الفندق جريا إما قادمين أو راحلين ربما لتقديم الدعم لفرقهم فى الميدان... بعد لحظات هى حقيقة كانت ساعات طويلة سمح لنا بالخروج من المخبأ فأسرعت إلى بهو الفندق فقد كنا أنا وهو على موعد عندما فتحت السماء أبواب الجحيم ولم تقفلها إلا بسحب كثيفة من الدخان الأسود وأصوات استغاثات نسمعها عبر أجهزتنا وتواصلنا مع الكثيرين من مختلف الأطراف..
***
هو كان فى مبنى الجامعة بتلك المدينة الساحرة قبل أن ينال منها الموت الكثير، قال لى إن بين فندقنا ومبنى الجامعة شارع صغير ولكن وما إن وصلنا وأبواب الجحيم فتحت من جديد لم نستطع أن نتواصل.. تم دفعنا إلى الملجأ وبقينا هناك لساعات.. وما إن خرجنا وجلسنا فى بهو الفندق وجدت وجها بابتسامة عريضة يلوح لى عند مدخل الفندق أو ما تبقى منه.. لم أتخيل أن أكثر من 18 سنة تفصل بين لحظة وداعه فى مطار هيثرو عائدا إلى بلده حاملا شهادة الدكتوراه بفخر واعتزاز ليضعها أمام والدته ووالده بعد سنوات من الفراق منذ أن حصل على البعثة لإكمال دراسته فى تلك الجامعة البريطانية العريقة حيث التقينا للمرة الأولى ومع الوقت أصبحنا ثلاثة أصدقاء لا نفترق أنا وهو ووعد..
***
حضننى بدفئه المعهود وراح يردد بضحكته التى لم تفارقه أبدا حتى الآن.. حتى هذه اللحظة من الألم الذى اكتسح مدينته بل وطنه من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه.. تحدثنا وكأننا قد وضعنا فاصلة منذ لقائنا الأخير فى مطار هيثرو.. ذكرنى بأننى أصررت على أن أوصله للمطار على الرغم من أنها عادة قديمة وغير معهودة فى لندن حيث المطار بعيد.. وكيف أننا احتفلنا بتخرجه لكذا يوم أولها فى درهم حيث كنا ندرس وآخرها فى لندن بين كثير من أصدقائه الذين لم أكن أعرفهم ولكننى أحببتهم من محبته.. كان الصديق الذى لا يشبه أى صديق آخر.. كانت تلك الصداقة نادرة جدا بين ثلاثة أرواح تلاقت فى زمن ما بين الفواصل.. هو لا يهتم بالسياسة أبدا وأنا وعهد مصابات بهوس اسمه السياسة ومتابعة الأخبار... هو كان يعمل على أن يعلمنا بأن الحياة أكبر من معركة هنا أو هزيمة هناك وأن علينا أن نبحث عن الحب والجمال فى كل تفاصيل الحجر بتلك البلدة العريقة التى عاش بها بدر شاكر السياب فكتب فيها كثيرا من شعره..
***
أمضينا ساعات نحتسى القهوة ونتحدث كأننا نسابق الزمن والقذائف وكل المنغصات.. تبادلنا الأخبار وروى كل منا للآخر ماذا حدث منذ أن افترقنا فى ذلك اليوم اللندنى الغائم حتى هذه اللحظة كثير من الماء مر تحت ذلك الجسر.. كانت تلك أغنية ستنج التى كانت تتحدث عن نيوكاسل تلك البلدة المجاورة التى امتلكت الكثير من مظاهر الحياة المتنوعة مقارنة ببلدتنا درهم حيث النهر والشجر والكاتدرائية العريقة..
***
افترقنا على عهد بلقاءات عديدة.. عهد فشلت فى تحقيقه على الرغم من الرغبة الجامحة خاصة بعد أن سكتت أصوات القنابل فى مدينته وعاد بعض الحياة لها وكان العهد أنه يريد الاحتفاء بى فى مدينته.. ما هى إلا أشهر فيأتينى صوته ضعيف بالكاد أستطيع أن أسمعه لأكتشف بأنه أصيب بالسرطان.. قاوم الحرب طويلا ورفض الخروج لظروف وقناعات عدة وهزم القذيقة.. ردد أنه سينتصر على هذا المرض كما انتصر على الكثير من الصعاب من قبله.. حاول أن يرسل عبر أسلاك الهاتف ضحتكه المعهودة فجاءت ضعيفة.. بقينا على تواصل حتى إنه فى أحد المرات قال أريد أن أكمل العلاج فى بيروت وعاد ليقول أعتقد أننى سأكون بخير.. كانت مكالمته الأخيرة مطولة وصف لى ما كان على مائدة طعامهم ذاك اليوم وقال «تفضلى شرفينا» وتحدث عن كل شىء إلا هو.. كعادته حاول أن يطمئننى أنه بخير حتى لا أقلق ولكن وكعادتى لم أستطع سوى أن أقلق عليه ولكنى لم أتخيل أن المرض سينتصر عليه أسرع من تلك القذيفة..
***
جورج كم لك وحشة وكم ستشتاق لك جدران حلب العريقة وكثيرون من طلابك ونحن جميعا.. ستبقى ضحكتك وأحاديثك المليئة بالحيوية تسكننا وتعيد لنا أيام معك..!
كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved