حكاية غزالة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 5 يوليه 2018 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

هذه قصة حقيقية عن غزالة كانت تعيش فى بلاد تكثر فيها الغابات، بلاد تأخذ فيها الطبيعة حريتها إلى المدى الأقصى فتتمدد وتتمرد وتتحدى بتلقائية مدهشة. بين الحين والآخر نحتاج أن نكتب عن مخلوقات أخرى تعيش بيننا ولا نراها أو نتصرف كأننا لا نراها مع أنه لولاها لكانت طباعنا أغلظ بما لا يقاس. فى هذا الباب ليس هناك من ينافس أديبنا الكبير محمد المخزنجى فهو يُنطق الحيوان بكل خصالنا الحسن منها والسيئ فى سلاسة وتمكُن وصدق، ومن قبله فعل ذلك آخرون أشهرهم الفيلسوف الهندى بيدبا بكتابه المعروف كليلة ودمنة وفيه تقمصت الحيوانات شخوص البشر وجرى على ألسنتها أعمق الحوارات فى الحكم والسياسة، كذلك فعلها الأديب الفرنسى الكبير لافونتين الذى استوحى هو نفسه روح كليلة ودمنة وقام بتأليف مجموعة ضخمة من الحكايات الخرافية عن الحيوانات. لكن هذا كان فى القرون الماضية فبيدبا عاش فى القرن الرابع الميلادى ولافونتين عاش فى القرن السابع عشر، لكن فى العصر الحديث لم تعد الكتابة عن الحيوانات تستهوى حتى الأطفال فعالم والت ديزنى قادر على خطف خيالهم إلى الكائنات الفضائية وعالم الأميرات بعيدا عن عالم الحيوان والطيور، لم يعد كثيرون يقبلون على قصص المكتبة الخضراء كالبجعات المتوحشات أو البنت والأسد، بل لعل كثيرين لا يدرون شيئا عن تلك القصص التى تربينا عليها وتعلمنا أننا لا نعيش وحدنا فى هذا العالم.
***
تثاءب صاحبنا وأزاح الستارة السميكة عن نافذته وشرع من بعد فى رفع الستارة البيضاء الشفافة. تراءى له خلف الغلالة المنسدلة جسد شيء لم يتبينه بدقة كان يتكوم فى إحدى زوايا حديقته. فرك عينيه ظنا منه أن الخدر الذى يلازمه عادة فى الصباح الباكر مازال يلازمه فلم يتغير الموقف، أزاح الستارة بتؤدة فإذا بالمشهد يتبدى له بوضوح. غزالة صغيرة ملقاة فى إعياء على العشب الأخضر لا حول لها ولا قوة، هو لم يقرأ كثيرا عن حياة الحيوانات لكن بدا له واضحا أن هذه الغزالة المسكينة عمرها فى الدنيا لا يتجاوز ساعات. هل يفرح لوجود هذا المخلوق البديع الذى تغزل الشعراء طويلا فى عيون إحدى فصائله « قف تمهل وخذ لقلبى أمانا من عيون المها وراء السواد« ؟ أم يخشى لأن هذه الغزالة الضعيفة هى فريسة شهية لأحد الحيوانات الجائلة بين الأشجار المتشابكة وهى منه على مرمى حجر ؟ اختلطت مشاعره وتجمد فى مكانه ثم حزم أمره وخرج إلى الحديقة.
***
غائبة عن الوعى أو تكاد كانت ترقد الغزالة الصغيرة لا تقيم حسابا لوجود صاحبنا ولا يخيفها وقوفه إلى جانبها، استجمع شجاعته وحملها بين ذراعيه ودخل منزله فلانت له ولم تقاوم. يا ربى ماذا يصنع بها بل ماذا يصنع لها ؟ من جاء بك إلى هنا أيتها الجميلة ومن تركك لى وذهب ؟ أرقد غزالته على الأريكة فمدت ساقيها فى كسل، بدت له هذه الحركة الضعيفة بشارة لا بأس بها فها هى تتجاوب معه أخيرا، ومن يدرى فلعلها جائعة حتى إن هو سقاها استردت حيويتها وقامت. فى حنان وحرص راح يسكب فى جوف الغزالة لبنا دافئا قطرة قطرة فلم تمانع بل لعل انطباعه الخاص أنها كانت تستطيب قطراته، جرّب للمرة الأولى إحساسا لم يداخله من قبل فلقد اختار طائعا أن يعيش وحيدا فى هذا المكان الجميل وكوّن أسرته بعناية من هذا العشب وهذه الطبيعة وهؤلاء العصافير، وفى أول مرة يكون فيها مسئولا عن روح تكون هذه الروح روح غزالة ؟ داخلته قشعريرة.
***
بالحرص نفسه الذى حملها به من فوق العشب أعادها إليه، ظن أن الغزالة الأم ربما هى التى جاءت بوليدتها إلى هذا المكان بعدما فاجأها المخاض فى محيطه، فإن هو ردها إلى حيث تركتها أمها فلربما عادت لتأخذها، وكان نصف ظنه صائبا، فلقد عادت الأم فعلا لكنها لم تأخذ ابنتها. وهكذا وفيما كان خارجا لعمله فى اليوم التالى فاجأته غزالة ضخمة على باب حديقته، يا لهذا الصباح الجميل.. كُنتَ تحسد البيوت حولك على تردد حيوانات الغابة الأليفة على أفنيتها وها أنت اليوم تستضيف غزالة وابنتها، محظوظ أنت لا شك فى ذلك. فتح الباب على مصراعيه للغزالة الأم كى تدخل، وعلى امتداد ساعات العمل لم يتوقف عن التفكير فى ضيفتيه العزيزتين ومصيرهما المجهول.
***
صارت متابعة صاحبنا الغزالة الأم وهى ترضع صغيرتها على فترات متقطعة متعة حقيقية، لكنه لم يفهم أبدا لماذا لم تأخذ الأم ابنتها وتغادر ولا لماذا كانت تختفى وراء الشجرة الوارفة فى حديقته وتراقب ابنتها عن بعد، عموما قال صاحبنا لنفسه لا تتعجلا الرحيل فوجودكما معى يؤنسنى، كل ما أرجوه أن تأخذا حذركما من الحيوانات المفترسة. استمرت ضيافة صاحبنا للغزالة الكبيرة وابنتها أربعة أيام حتى اعتاد عليهما ولعلهما أنستا إليه، لكن فى اليوم الخامس فتح ستارة نافذته فى الصباح فإذا بالغزالة الصغيرة ممدة على الأرض وإذا بالأم بارحت مكانها خلف الشجرة. انقبض قلبه وهرول إلى الحديقة فوجد الصغيرة قد فارقت الحياة، وكأن الأم كانت تتخفى وراء الشجرة لتراقبها.. وكأنها كانت تعلم أن صغيرتها مريضة وأن أيامها فى الدنيا معدودة فصممت أن تبقى إلى جوارها حتى النهاية. تكفلت أنهار الدموع التى انسابت من عينى صاحبنا بترطيب الجسد الضامر للغزالة الصغيرة، تأوه وأطلق صرخة فى الهواء سرعان ما ضخّمها الفراغ الممتد من حوله. كانت ليلته ليلاء وطاردته كوابيس وأشباح، أما الكابوس الأكبر الذى لازمه طويلا فكان مرتبطا باللحظة التى وارى فيها الثرى جسد الغزالة الصغيرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved