لا تغلقوا أبواب الملاذ الأخير

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 5 فبراير 2015 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

عبر حقب طويلة ظن الشعب العربى أن مشكلته الأساسية هى مع نظام الحكم السياسى الاستبدادى، سواء أكان فى صورة ملك عضوض، حكم الغلبة، فى الأزمنة الغابرة باسم الخلافة الإسلامية، أو فى صورة انقلابات عسكرية باسم حماية الأوطان، أو فى صورة حكم الحزب القائد الذى من خلال أيديولوجيته وحدها ستنهض الأمة، أو مؤخُراً فى صورة قوى تحمل راية الجهادية التكفيرية العنفية التى لا تعترف إلا بفهمها وحدها للدين وللسياسة ولطريق السعادة البشرية.

وفى الأزمنة الحديثة أدرك الشعب العربى أن لديه مشكلة أخرى كبيرة تمثلت فى طبقة أصحاب المال والاقتصاد، الذين بدل من أن يستعملوا ثرواتهم فى بناء اقتصاد تنموى إنتاجى عادل يعم خيره الجميع انغمسوا فى نشاطات اقتصادية تركزت فى مضاربات العقار والأسهم، وفى تسويق منتجات الغير، وفى استثمار الفوائض والأرباح فى أرض الغير ولصالح الأغراب. الهدف هو الربح السريع، بأقل جهد، وبأدنى المخاطر، وبتركُزه فى يد أقلية لا تمارس التشارك والتراحم والتضامن الإنسانى. ومن هنا ظل الاقتصاد العربى اقتصاداً ريعياً واستهلاكياً، وبالتالى لا تمتدُ أغصانه فى الأفق البعيد.

وفى السنين الأخيرة وجد الشعب العربى نفسه أمام مشكلة الكثير من رجالات الدين، المغالين فى تشدُدهم وتزمُتهم، المصرّين على الانغماس فى المشاحنات المذهبية الطائفية العبثية التى لا تخدم الدين، وإنُما تخدم أهداف القوى الصهيونية والاستعمارية التى تريد الإبقاء على ضعف وتمزُق الأمة العربية.

•••

والآن، فى هذه اللحظة، يجد الشعب العربى نفسه أمام إشكالية جديدة، إشكالية الكثيرين من القضاة العرب فى إصدار أحكام جائزة غير منطقية، وأحياناً انتقامية، خصوصاً بحق ناشطى السياسة من شباب وشابات حراكات الربيع العربى. وهذه إشكالية بالغة الخطورة.

ولا يعرف الإنسان إن كان القضاة العرب يدركون أهمية الدور التاريخى الذى يجب أن يلعبوه فى هذه المرحلة الحرجة من حياة شعوب هذه الأمة. فإذا كان الشباب قد يئسوا من أن تنصفهم الأنظمة السياسية، ومعها الجهات الأمنية التى تمارس الكثير من العنف والشدة، ويئسوا من المؤسسات الاقتصادية والمالية التابعة للرأسمالية العولمية المتوحشة التى لا تعترف إلا باقتصاد السُوق وقيمة التنافسية، ويئسوا من مؤسسات المجتمع المدنى التى لم تعرف إلا الصراعات والانقسامات فيما بينها والتى أنهكتها، وإلا الانتهازية الزبونية الخاضعة لسطوة السلطة، والتى قادت فى النهاية إلى ابتلاع سلطات الحكم لمجتمعاتها.

وفى الفترة الأخيرة يئسوا من سلطات التعبير عن الرأى العام الممثلة فى الكثير من وسائل الإعلام المختلفة، والتى فى كثير من الأحيان تبرر الظلم باسم حماية الأمن الوطنى.. إذا كانوا يئسوا من كل تلك الجهات فإن ملاذهم الأخير هو النظام القضائى، الذى يتطلعون إليه ليكون منصفاً وعادلاً.

•••

هنا يتوجُب طرح العديد من الأسئلة. الأول يتعلق بمهمات القاضى، فهل هى لا تزيد على تفسير القانون وتطبيقه؟ أم أن له دورا أيضاً فى توطيد العدالة؟ وإذا كان القانون جائراً فهل يستطيع القاضى أن يتعايش مع ضميره وربه إذا قبل بتطبيق أحكامه بدلاً من الاعتراض أو التنحى أو حتى الاستقالة؟

هل حقاً أن مسؤولية الجور والظلم والشدّة فى القوانين تقع فقط على كاهل مشرعى القوانين وليس على مطبقيها أيضاً؟

السؤال الثانى، هو هل أن حل على الأقل جزء من تلك الإشكالية يكمن فى نظام قضائى جديد يعتمد استقلالية القضاء إدارياً ومالياً وتعييناً للقضاة وترقيتهم ومحاسبتهم، بعيداً عن أى تدخُل من قبل السلطة التنفيذية فى الحكم؟

السؤال الثالث، هو مدى الحاجة لإدخال نظام هيئة المحلفين فى المحكمة العربية حتى يكون الحكم على المتهم نتيجة حكم القاضى والمحلفين وبالتالى أكثر توازناً؟

•••

إن إصلاح نظام وممارسة القضاء العربى أصبح أمراً لا يقلُ أهمية عن موضوع الإصلاح السياسى والاقتصادى والديًّنى ذلك أن أبواب الفرج والأمل فى أرض العرب أصبحت تضيق فى وجه الإنسان العربى، فاذا سد القضاء، أحد الملاذات الأخيرة، فإننا نهيئ لبراكين من الغضب اليائس الذى سيحرق الأخضر واليابس.

إن أرض العرب تعيش جحيم النواقص الكثيرة فى الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية، فهل سنضيف إليها العيش فى جحيم نواقص فى أهم معقل من معاقل الحياة البشرية: معقل العدالة والإنصاف والميزان؟

دعنا نذكُر قضاة أمة العرب بما قاله الإمام على بن أبى طالب عندما خاطب عامله فى مصر بأن «لا تكونن عليهم (أى الناس) سبعاً ضارياَ تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إمُا أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق». وكذلك بما قاله الصدًّيق أبوبكر لعموم الناس «وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسًات فقومونى».

من حقًّنا على قضاة العرب أن يقوموا هم بمنع بعضهم من أن يصبح سبعاً ضارياً وبتقويم من يسىء إلى هذه المهنة الربانية العظيمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved