يوسف إدريس.. الاحتراق بالكتابة

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 4 أغسطس 2017 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

ربما لم يثر كاتبٌ مُعتبر من كتابنا المعاصرين ما أثاره المرحوم يوسف إدريس من مناقشات وجدل صاخب، وهجوم ودفاع؛ هى الحياة بكل ما يعج فيها من ضجيج وحيوية واضطراب وحركة.. تهدأ العواصف وتتبدد الزوابع ولا يبقى من الكاتب؛ أى كاتب، إلا كتابته ومنجزه الإبداعى الذى بقدر ما أجاد وأخلص فيه بقدر ما خلّد هذا الإبداع سيرة صاحبه وأعماله.
ليوسف إدريس (1927 ــ 1991)، بلا شك، مكانته وقيمته الكبرى فى أدبنا المعاصر، «صاحب طريقة مخصوصة فى السرد»، بتعبير خيرى دومة الذى قدم عنه واحدة من أهم الدراسات النقدية المعتبرة فى كتابه القيم «أنتَ ـ ضمير المخاطب فى السرد العربي». إدريس هو كاتب القصة القصيرة الأول فى زمنه بلا منازع، حرّر كتابتها من أجواء الرومانسية الزاعقة والبلاغة الكلاسيكية والرطرطة الفارغة (التى عادت الآن بفجاجة وسخف مع مُولد الكتابة والنشر الذى ليس له صاحب ولا ضابط ولا رابط!)، وأصّل حضورها فى تربة الثقافة العربية؛ إذ كان شغله الشاغل وهمه الأول هو كتابة «قصة مصرية خالصة»، أو «الوصول بها ــ أى القصة المصرية ــ إلى ما يؤكد هويتها الخاصة»، بحسب جابر عصفور.
جسارته الإبداعية عبرت عن نفسها منذ أول مجموعة أصدرها، «أرخص ليالى» (1954)، وجمع ببراعته الأدبية العديد من المتناقضات، يرصدها غالى شكرى باقتدار؛ إذ أدخل العامية فى الفصحى، ومزج بين ذوق النخبة والحس الشعبى، وتعرض للجنس دون أن يسقط فى الابتذال، وانتزع أشكاله الفنية من براثن الفطرة.
مع مطالع الخمسينيات، استهل إدريس رحلته الأدبية، عندما كانت مصر حبلى بالتغيير، حلمها الأبدى هو النهضة، المناخ العام هو الذى كان يقود المثقفين المصريين إلى بلورة الحلم، أن ينهض المجتمع كله، الشعب بأكمله، وكان إيمان المثقف المصرى ــ بحسب الجليل شكرى عياد ــ أنه لن يجد نفسه إلا فى قلب الشعب، أو الأكثرية منه، ذلك الشعب البائس الذى ينوء بالجهل والمرض والفقر ويصبر على الظلم، حضور هذه الأكثرية كان هناك فى أعماق الريف والصعيد وقاع المدينة. فى هذا السياق نذر إدريس نفسه لاقتناص إنسانية وخصوصية هذه الأكثرية، بإزميل الفن سجل ملحمته، بطولته الحقيقية دون مبالغة أو تهويل، الصبر على أفدح الكوارث، وقدرة عجيبة وهائلة رغم ذلك على السخرية، والضحك من قاع القلب.
خلال الفترة (1954 ــ 1958)، أى خلال 5 سنوات فقط، أعلن يوسف إدريس عن نفسه بقوة وشموخ ورسوخ، ونشر خمس مجموعات لافتة شكلا وموضوعا، يعدها صبرى حافظ وحدة فنية متماسكة من مراحل تطور القصة القصيرة عنده، وفيها استخدم إدريس القصة لتقديم لون من المسح الاجتماعى الرهيف للقضايا الاجتماعية والسياسية التى يجب على النظام الجديد تناولها ومعالجتها. وكان كل وعيه منصبا على القضايا الاجتماعية والفكرية التى يريد تناولها، أو على تقديم قصة مصرية حقيقية كما يقرر هو، لقد أفصحت موهبته عن نفسها بتدفق وعنفوان غير مسبوق.
ترك إدريس إرثًا من الكتابة القصصية، والروايات والمسرحيات فضلا على كم وافر من المقالات المنشورة فى الصحف والدوريات المحتلفة، ما زلنا نقرأها ونستمتع بها، وتجدد فينا بفضل حيويتها الفنية النظر فى تفاصيل الحياة الصغيرة وحيثيات الأوضاع الاجتماعية التى لم يتغير منها سوى قشور على السطح بينما جذرها يتشعب طولا وعرضا فى التربة العميقة.. من ينسى روائع قصصه مثل «أبو سيد» أو «حادثة شرف» أو «بيت من لحم» أو «حالة تلبس»، أو «الهجانة»، وغيرها.. قراءة إدريس متعة كبيرة ورؤية للعالم مختلفة، وحس فنى وارف الحيوية والنضارة.. لقد كان «يكتب بأعصابه.. كانت أعصابه تحترق.. وكنا نشم رائحة احتراقها، وكنا نتعذب معه، لأننا نعرف يقينا أنه يتعذب من أجلنا»، هكذا وصفه المرحوم شكرى عياد ببراعة ونفاذ، وكأنه وضع يده على سر يوسف إدريس أو خصوصيته الفريدة؛ إنه الذى يحترق بالكتابة ليخلد إبداعه، وتخلد سيرته.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved