النادمون على (٣٠) يونيو!

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 4 يوليه 2018 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

من أسوأ ما يتعرض له أى بلد أن يفضى انكسار الرهانات الكبرى على حدث جوهرى فى التاريخ إلى التشكيك فى شرعيته، أو أن تتفاقم مشاعر الندم على المشاركة فيه.
إذا ما نزع الحدث عن الأسباب التى دعت إليه، والأجواء التى أحاطته، وموازين القوى التى صنعته، والتداعيات التى لحقته، فإنه يفقد صلته بالتاريخ، أو بأى قدر من التبصر بالحقائق الأساسية.
شىء من ذلك يحدث الآن.
هناك من هو مستعد ـ باليأس، أو بالغضب ـ أن ينفى عن (٣٠) يونيو طبيعتها كثورة شعبية طلبت الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ويحيلها إلى مجرد مؤامرة، أو محض خديعة.
إذا جاز الحكم على الثورات بانكسار رهاناتها، أو ذهاب جوائزها إلى غير أصحابها، فإنه لن تتبقى ثورة واحدة فى التاريخ تستعصى على مشاعر الندم.
الندم فعل تأنيب قد يتحول إلى فعل يأس يمتد إلى خلط أوراق وقلب حقائق ونفى أى سياق وتعلم أى درس.
فى فورات الندم تكاد الحقائق أن تغيب واليأس من المستقبل أن يسود.
لم تكن «يونيو» أول ثورة مصرية تجهض وتختطف جوائزها.
«يناير» تعرضت لنفس المصير فى ظروف وملابسات أخرى.
هكذا اختطفت فى سنوات قليلة ثورتان، هما بالتعريف الدستورى ثورة واحدة، الأولى ـ من جماعة «الإخوان المسلمين».. والثانية ـ من الماضى الذى ثار عليه شعبه.
لا الدعاية تقدر على رواية التاريخ بإقناع.. ولا الانتقام يصلح لأية رواية.
لم تكن «يناير» مؤامرة بقدر ما كانت صراعا مفتوحا على المستقبل توافرت أسبابه فى انسداد القنوات السياسية والاجتماعية وتهميش دور مصر فى عالمها العربى، فضلا عن «مشروع التوريث» وزواج السلطة بالثروة وتفشى الفساد وارتفاع منسوب الدولة الأمنية.
لا يعنى اختطاف «يناير» نفى شرعيتها، وإلا فإنه تدليس على التاريخ.
بذات القدر لا يمكن النظر إلى ما جرى فى (٣٠) يونيو من احتجاجات وصدامات وتظاهرات مليونية خارج سياق الصراع على المستقبل.
لم تكن «يونيو» انقلابا بقدر ما كانت طلبا جماهيريا لدرء مخاوف الانجراف إلى احتراب أهلى وهيمنة جماعة واحدة على كل مفاصل الدولة.
أرجو ألا ننسى الحقائق، وإلا فإنه تدليس آخر على التاريخ.
على الرغم من أية إحباطات وانكسارات فى الروح والسياسة والمجتمع، فإن التاريخ هو التاريخ.
الشعوب الحية تراجع تجاربها حتى تعرف أين كانت الأخطاء القاتلة التى تفسر الانكسارات، غير أن أسوأ مراجعة نزع شرف الثورة عن المجتمع المصرى.
لم يكن ممكنا أن تحدث «يونيو»، إذا لم يكن المجتمع المصرى قد تسيس فى «يناير» واكتسب حقه فى التعبير عن نفسه بالتظاهر السلمى.
فصل «يونيو» عن جذرها الأم هو بذاته مؤامرة على الثورة ـ إذا صح حديث المؤامرات.
بذات القدر فإن الندم على «يونيو» هو خيانة لـ«يناير» ـ إذا صح حديث الخيانات.
هناك فارق جوهرى بين شرعية الثورة وما انتهت إليه.
أرجو أن نتذكر أن طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة صلب (٣٠) يونيو.
الشرعية التاريخية هنا بالضبط، ولا توجد شرعية أخرى.
لأى انكسار أسبابه، وذلك يستدعى المراجعة الشاملة داخل سياق الحوادث لا خارجها. 
نفى طبيعة الصراع فى «يونيو» مشروع تكرار لأخطاء الماضى بصورة أكثر كارثية.
لم يكن الصدام أمرا عارضا يمكن تجنبه، فهو على طبيعة الدولة ـ دينية أم مدنية؟
بدأت المواجهة مبكرا فى أجواء الاستفتاء على التعديلات الدستورية (مارس ٢٠١٣).
رغم أن التعديلات المستفتى عليها لم تكن لها أية صفة دينية من قريب أو بعيد، إلا أن الفرز الطائفى بدأ والاحتقانات تصاعدت.
كانت تلك جريمة كبرى بحق الثورة وطلبها للحرية والعدالة وتأسيس نظام جديد يلتحق بعصره.
شاركت أطراف عديدة فى حرف الثورة عن مسارها الطبيعى والدخول فى نفق لم يكن منه مخرج.
تقاسمت الأخطاء الجماعة الأكثر قوة وتنظيما بظن أن الفرصة حانت لـ«التكويش» على السلطة بمفردها، والمجلس العسكرى الذى ذهب لاستفتاء لم يكن له ضرورة قبل أن يدمج نتائجه فى إعلان دستور تضمن بنودا كثيرة أخرى كأنه لم يكن.
تواصلت النذر من إجراء انتخابات بلا دستور وإقصاء القوى المدنية إلى حصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى ومحاولة «أخونة الشرطة» والتحرش بالجيش، حتى وصلت ذروتها فى إعلان دستورى يضفى صلاحيات مطلقة على رئيس الجمهورية رغم أنه لم يكن من حقه إصداره، ووضع دستور جديد يؤسس لدولة دينية.
كان الصدام محتما وأى احتمال آخر لم يكن ممكنا.
فى «يونيو»، كما فى «يناير»، دخلت أطراف أخرى على الخط، وتداخلت اعتبارات ومصالح واستراتيجيات إقليمية ودولية.
لا تجرى الثورات فى معامل كيمياء.
الاختطاف أحد سيناريوهاتها المحتملة إذا افتقدت القيادة والرؤية، أو اختلت موازين القوى وضاعت الأهداف الرئيسية فى زحمة البحث عن فتات مصالح.
ذلك ما حدث مرتين.
بكلام آخر شرعية «يونيو» تعرضت لضربتين قاصمتين من اتجاهين متعارضين.
الأولى، بالسياسات التى استدعت الماضى مجددا وشيوع روح انتقامية من «يناير» وتضييق المجال العام أمام حركة المجتمع وتنحية السياسة وتأميم الإعلام وتبنى خيارات اجتماعية دفعت بمقتضاها الطبقة المتوسطة والفئات الأكثر عوزا فواتير الإصلاح الاقتصادى دون أى عدل فى توزيع الأعباء.
الأخطر أن هناك من تصور أن كسر الأجيال الجديدة يثبت الدولة، بينما هو يضرب فى جذرها وينذر بمجهول لا يعرف أحد متى وكيف يطل علينا بأخطاره؟
والثانية، بمشاعر الإحباط، التى وصلت إلى ما يشبه الكآبة العامة فى البيئة المحتقنة.
كان الندم أحد تجلياتها على المشاركة فى «يونيو».
الشعوب لا تندم على ثوراتها ومعاركها وأحلامها وتضحياتها، وإلا فإنه اليأس من أى تغيير، أو تصحيح للمسارات المختلة.
المراجعة بالدرس شىء والندم باليأس شىء آخر تماما.
تعرضت أحداث (٣٠) يونيو إلى التشويه المنهجى من طرفين متناقضين.
هناك من.. ومن أفرط ـ بالمقابل ـ فى تشويهها بدواعى الانتقام.
الأول ـ حول أحداثها إلى شرائط دعائية تعادى فى الجوهر «يناير» وتلغى شرعيتها، التى تستمدها من كونها استئنافا لما سعت إليه الثورة الأولى فى طلب دولة الحرية والعدالة.. دولة القانون والمؤسسات.
والثانى ـ تصور أن نفى طابعها الشعبى يعفيه من مسئولية تعطيل المسار الديمقراطى، وأن انكسار رهاناتها ينفى عنه فشله فى الحكم وترويع القوى المدنية بقوائم سوداء للإعلاميين والسياسيين وقوائم اعتقالات كانت جاهزة إذا ما فشلت تظاهرات (٣٠) يونيو.
إذا ما جرى تجاهل حقائق ذلك اليوم فإننا نظلم التاريخ، ونظلم المثقفين الذين غضبوا وتوحدوا وواجهوا الموقف الصعب فى اعتصام وزارة الثقافة، ونظلم الحركة الجماهيرية باتساع البلد كله التى سقط منها ضحايا وشهداء حتى لا يتحول إلى دولة دينية تستبد بها جماعة واحدة، ونظلم القوى المدنية التى توحدت بقدر ما تستطيع لدرء الأخطار المحدقة.
أيا كانت فداحة الاحباطات فإن إنصاف (٣٠) يونيو رد اعتبار لقدرة الشعب المصرى على الفعل والتغيير ولحقه فى صناعة مستقبله بإرادته الحرة دون يأس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved