معرض الكتاب.. سنوات وذكريات

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 4 فبراير 2017 - 11:05 ص بتوقيت القاهرة

تعودت كل عام مع انطلاق معرض القاهرة للكتاب تدوين ما أسميه «يوميات المعرض»، أسجل بكل دقة تفاصيل ومشاهدات كل يوم فى المعرض، مقابلات الأصدقاء وما دار فيها، الفعاليات التى حضرتها، وأخيرا الكتب التى اقتنيتها وإشارات سريعة عنها أو عن السبب الذى جعلنى أقتنيها. كل ذلك داومت على كتابته لسنوات طويلة، وما زلت أحتفظ بها حتى اللحظة، لكننى وجدت نفسى هذا العام وحتى كتابة هذه السطور أكتب حرفا.


انقضت نصف الفترة المقررة لمعرض الكتاب، ولم أكتب ــ كما تعودت ــ حصاد جولات كل عام والكتب التى حرصت على اقتنائها. ببساطة، شعورى بمعرض الكتاب هذا العام مختلف، يبدو أنه مع تقدم العمر وتراكم سنوات الزيارة نكتسب ألفة عميقة أو خبرة ما (شئنا أم أبينا نجحنا فى رصدها وتحديد ملامحها أم لا) بهذا النشاط الذى نمارسه لفترة معلومة كل عام. خبرة التجوال، وخبرة بدور النشر، وخبرة فى اختيار العناوين واتخاذ قرارات الشراء، أول زيارة لك فى المعرض تختلف عن الثانية والثالثة، والخامسة تختلف عن العاشرة، تكتشف أن طريقة سيرك وتنقلك بين الأجنحة المخصصة للعرض والبيع صارت منظمة إلى حد بعيد ومحددة الهدف، وبعيدة عن العشوائية والارتباك اللذين كانا يلازمانك وأنت صغير فى جولاتك الأولى فى رحابه. صرتُ أحفظ كل سنتيمتر فى المعرض، الأجنحة ودور النشر، القديم منها والحديث، الذى ارتبط فى ذاكرتى بسنوات الطفولة والتلمذة وما ظهر منها على الساحة بعد 2011.


قبل نحو 20 عاما كنت أنفق فى معرض القاهرة للكتاب ــ فى المتوسط ــ نحو ثلاثة آلاف جنيه (نعم ثلاثة آلاف جنيه، وربما أزيد بألف أو ألفين!!)، أنفقها كلها فى شراء الكتب ولا يتبقى منها جنيه واحد! كنت أخصص كل عام لمجال معرفى بعينه أقتنى ما استطعت من كتب مرجعية وتأسيسية فيه وفق قائمة أجتهد فى إعدادها بنفسى، وقد تستغرق منها شهورا طويلة من الحذف والإضافة والتعديل حتى تصل إلى صورتها النهائية أثناء المعرض. فعام لكتب التراث العربى فى مجالاته جميعا، وعام لكتب النقد الأدبى الحديث، وآخر للنقد العربى القديم وما يتصل به من نصوص فى التفسير والقراءات وعلوم اللغة والبلاغة.. إلخ، وفى عام تالٍ أخصصه بكامله لكتب الفكر العربى المعاصر وأصحاب المشاريع أو ما يطلق عليه البعض «مشاريع القراءة الفكرية»، وكنت أسير على هذا المنوال حتى عامين أو ثلاثة مضت.


خلال سنوات الدراسة بالجامعة (حينما تيسر لى دخل مستقل عن مصاريف الكلية من عمل إضافى بسيط أو مساعدات لا أنساها من خالى الطبيب الذى كان يشجعنى دوما وبلا حساب) كنت أدخر كل مليم طوال العام، أحرم نفسى من أمور كثيرة جدا، أنفق كل ما ادخرته طوال أيام المعرض، لم أشعر لحظة بالندم أو الحسرة أو حتى مراجعة يتيمة بينى وبين نفسى أننى فى أيام معدودات أُنفق حصيلة ما ادخرته طوال عام كامل وبما يقدر بآلاف الجنيهات فى وقت كان للألف جنيه قيمة كبيرة (أقول كان!)


أصدقائى فى الجامعة، كانوا يتعاملون معى على أننى مجنون على الحقيقة لا المجاز! أما أبى بارك الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية فكان يحملنى دائما مسئولية إهدارى ثروة حقيقية بثمن الكتب التى كنت أشتريها فى المعرض وخلال العام.. إلى وقت قريب كان يقول لى «يا ابن الـ...... كان زماننا اشترينا حتة أرض وبنيناها بفلوس الكتب دى يا ابن الـ.....».. الآن نستعيد معا هذه الذكريات ونضحك من القلب.


ثلاثون عاما بالتمام والكمال، لم أنقطع فيها عن زيارة المعرض ولو لمرة واحدة، لكن الآن إحساسى به وتعاملى معه كـ«حدث كبير» و«مناسبة أنتظرها من السنة للسنة» و«الموسم الأعظم لشراء الكتب» اختلف اختلافا بينا وجوهريا فى السنوات الأخيرة.. لم أعد أذهب للمعرض لشراء الكتب فى المقام الأول، لم أعد أجهز قائمة ضخمة بما حددته سلفا، صرت أذهب مباشرة للجناح الذى أريد والدار التى أقصد أخطف كتابا بعينه أو كتابين على الأكثر، لا أتردد، عينى تمسح الأرفف مسحا كالرادار، تتوقف عند عنوان أو كتاب أعلم أننى سأشتريه فورا ولو دفعت فيه ثمنا كبيرا! 
لم يعد المعرض، كما كان، بهجة خالصة ولا «عيدا» أستقبله وأتحضر له وأنتظره بلهفة وفرح كما كنت أعيشه.. الآن صار «معرضا» لاسترجاع الذكريات وتأمل ما فات ومشاهدة «السنين اللى بتسرسب من بين إيدينا».. معرض الكتاب قطعة من تاريخ وذكريات كل شخص ارتبط به من جيلى على مدى ثلاثين عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved