حقائق الاقتصاد ومغالطات التطبيق المصرى

عاصم أبو حطب
عاصم أبو حطب

آخر تحديث: السبت 3 سبتمبر 2016 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

«كنقطة زيت فى إناء ماء»، هكذا شبه نجيب محمود وضعية العلم فى المجتمعات النامية. وقدر «الاقتصاد» كونه أحد العلوم الاجتماعية، أن يكون طافيا على مياه الأحداث فى مصر لا سيما فى ظل الوضع الاقتصادى المتعثر الحالى، ورغم أن «الذوبانية» فى واقع المجتمع هى إحدى خصائص هذا العلم، إلا أنه يبقى بنظرياته وقواعده فى منأى عن مائدة النقاش وآليات التعامل مع أزماتنا الاقتصادية، أى حضور بالاسم «مشكلات وأزمات اقتصادية»، وغياب فى التخطيط، ومخالفات صريحة فى التطبيق خلافا لما استقر عليه الفكر الاقتصادى وأصبح من المعلوم بالضرورة لأهل هذا العلم.

ومع تداعى المشكلات الاقتصادية؛ لا سيما خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كان تساؤلى دائما ولا يزال: مادامت مشكلاتنا هى اقتصادية الجوهر والأسباب والتداعيات، فأين «علم الاقتصاد» منها، ولماذا هذا الجفاء للنظرية والمنطق الاقتصادى فى التعامل معها؟ وقبل أن أستعرض بعض الأمثلة، دعونى أولا أقول بأن هذه القضية تمثل خطيئة كبرى تشترك فيها رموز اقتصادية لتيارات كثيرة من المجتمع المصرى والتى فشلت فى استيفاء شروط الموضوعية وعجزت عن التجرد من إملاءات انحيازاتها الفكرية والسياسية، مما أدى إلى انعدام «النزاهة العلمية الاقتصادية» ودفعها إما إلى عنق النظرية الاقتصادية أو لعرض أنصاف الحقائق لكى توافق مواقفهم الشخصية وأحكامهم المسبقة.

***

ولنبدأ بأزمة الدولار، إحدى كبريات الأزمات الاقتصادية حاليا، فلقد أُرجِع الانخفاض الوقتى الذى طرأ على سعر الدولار منذ أسابيع قليلة إلى «العين الحمراء» التى ما إن رآها الدولار حتى ارتعدت فرائصه وانخفضت قيمته أمام الجنيه. ورغم كون هذه العبارة منسوبة لأحد مشاهير الإعلاميين وليست لاقتصادى أو مسئول حكومى، فإن هذا لا ينفى المشكلة، فالتشابه بين كلمتى «إعلام/إعلامى» و«علم/علمى» لا أظنه من فراغ، فالأصل هو «العلم» بعد استيفاء شروطه، ثم تأتى عملية نقله للجمهور من خلال «الإعلام»، ومن ثم؛ فإن لم يتوافر العلم، فالأولى أن يُسأل «أهل الذكر» المتخصصون وإلا فالصمت خير. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تم نقل مضمون هذه الرسالة للرأى العام من قبل مسئولين حكوميين وإن كان بعبارات أخرى مثل «تدخل وتعليمات وتوجيهات الرئيس» وغيرها. ولا تخبرنا أدبيات علم الاقتصاد بأن «العين الحمراء» حتى لمن استبدلوا الورق النقدى بالذهب وصاغوا النظام النقدى العالمى الحديث كانت يوما ضمن محددات سعر الصرف وقيمة العملة؛ بل تخبرنا النظرية الاقتصادية أن الأصل فى ذلك هو تفاعل قوى السوق، فأسواق العملات ما هى إلا كأسواق السلع وتخضع بالضرورة لقوانين العرض والطلب، فيتوازن السوق عندما يتساوى ما يدخل للدولة من عملة أجنبية مع ما يخرج منها، ويحدث العجز عندما يكون ما يدخل أقل مما يخرج. ومهما أوتيت الدولة من أعين حمر أو زرق، فلن تنفع أو تشفع فى الدفاع عن قيمة عملتها الوطنية مادام لم يتوفر لديها رصيد قوى من العملات الأجنبية واستمر تزايد عجز ميزان المدفوعات. ولهذا فدعونا نتجرد من تحيزاتنا ونتفق أن مصر فى ظل ظروفها الاقتصادية الحالية متجهة اضطرارا لا محالة إلى تعويم الجنيه، بل إن التراخى فى تنفيذ ذلك مراعاة لحسابات سياسية وتحسبا لردود فعل شعبية سينتج عنه المزيد من الانخفاض فى قيمة العملة وسيرفع المستوى العام للأسعار وقيمة وتكلفة الديون.

وفى سياق متصل، كانت الرسالة الموجهة للرأى العام دائما أن خفض قيمة العملة سيحفز الصادرات ويدعم تنافسية منتجاتنا فى الأسواق العالمية، وهذه كلمة حق ولكن إسقاطها على الحالة المصرية يبطلها. فأساس القدرة التصديرية لأى دولة هو وجود قاعدة إنتاجية قوية لتغذى قطاعها التصديرى. ووضع القاعدة الإنتاجية فى مصر معلوم للجميع، وما تعرضت له من تآكل وتجريف على مدى عقود طويلة، إلى جانب هروب رءوس الأموال والاستثمارات فى السنوات الأخيرة كفيل بأن يفقدها القدرة على المنافسة الدولية. علاوة على ذلك، فلا تتحدد القدرة التنافسية والتصديرية بمستوى سعر المنتج فقط، فالاتجاهات الحديثة فى علم الاقتصاد تشير إلى تراجع أهمية السعر كمحدد لنفاذية المنتجات المحلية للأسواق الدولية. فمع ارتفاع مستويات الدخول وتحسن مستويات المعيشة فى الكثير من الأسواق التى تصدر إليها مصر منتجاتها، تحولت هذه الأسواق من «أسواق سعر»، حيث يكون السعر المحدد الأساسى لمستوى الطلب، إلى «أسواق جودة» بحيث يصبح الالتزام بالمواصفات القياسية والتوافق مع اشتراطات جودة وسلامة المنتجات والمطابقة للمعايير البيئية عوامل أكثر أهمية فى تحديد التنافسية. وما يدلل على صحة ذلك هو تكرار رفض شحنات الصادرات المصرية للاتحاد الأوروبى رغم انخفاض أسعارها مقارنة بأسعار المنافسين بسبب عدم المطابقة لاشتراطات ومتطلبات التصدير. وأزيدكم من الاقتصاد قاعدة، فالتعويل على انخفاض سعر العملة كمحفز للصادرات لا يصلح من الأساس لدولة تستورد ما يقارب 40% مما تستهلكه من الغذاء من العالم الخارجى، حيث سترتفع الأسعار مع كل تخفيض لقيمة العملة فى وقت نعانى فيه من تضخم يتجاوز العشرة فى المائة.

***

يحدثنا المسئولون فى مصر طيلة الوقت عن تحسين بيئة الاستثمار واجتذاب رءوس الأموال والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومن ناحية أخرى تجد غموضا متزايدا فى السياسة النقدية وتقييدا على حركة الأموال والعملة، إلى جانب غياب معالم واضحة للإصلاح السياسى والديمقراطى. وهنا يحدثنا علم الاقتصاد بأنه فى ظل وضع كهذا، فسيتردد المستثمرون فى اتخاذ قراراتهم الاستثمارية وشراء الجنيه قبل أن تتضح ملامح انخفاضه ومستقبله ليتمكنوا من تقييم جدوى الاستثمار. كذلك، يحدثنا علم الاقتصاد عن العلاقة الارتباطية القوية بين الاستقرار السياسى – بمعناه الأشمل ــ وبين الاستثمار، حيث يعد الاستقرار السياسى أحد معايير تقييم مخاطر الاستثمار، وبالتالى فإحدى مشكلات الاستثمار فى مصر أننا نركز على تحسين الأداء الاقتصادى ونغفل عن دور الإصلاح السياسى والذى لا يجتذب فقط الاستثمارات بل يضمن استدامتها، بحيث لا تصبح مجرد اقتناص فرص وقتية يتم تحويل عائداتها للخارج، بل يشجع إعادة تدويرها فى الاقتصاد المحلى.

أخيرا، عادت بنا الحكومة إلى عصور الحمائية الاقتصادية بمجموعة قرارات شملت رسوما على واردات قائمة من السلع؛ ظنا منها أن ذلك سيحفز الطلب على المنتجات المحلية ويزيد تنافسيتها أمام نظيراتها المستوردة. ورغم أن هذه السياسة تكاد تكون قد أثبتت فشلها مع توجه العالم للانفتاح الاقتصادى وتحرير التجارة، إلا أن ما تهمس به قواعد الاقتصاد فى أذن الحكومة هو هل لدينا بدائل محلية لهذه السلع؟ أم بدأنا بالقرار ثم سنشرع فى إنتاج البدائل المحلية؟ والأهم من ذلك، فإن أحد أهم المبادئ التى قامت عليها النظرية الاقتصادية ونظرية التجارة الدولية هو وجود «مزايا»، فالأساس هو التخصص المبنى على وجود مزايا نسبية وقدرة تنافسية، ولا تحدد الدول ما تنتجه أو تصدره أو تستورده بشكل عشوائى من خلال قائمة تعلنها الحكومة، وإنما من خلال بحث وتحديد وتحليل للمزايا التى تتمتع بها فى مختلف الصناعات والسلع، ثم يعقب ذلك الاهتمام والتركيز على هذه الصناعات وتنميتها، هذا إن ثبت من الأساس جدوى هذه السياسات الحمائية.

***

مثال أخير، لا نزال نصر على الدفاع غير العلمى عن جدوى وإيرادات مشروع توسعة المجرى المائى لقناة السويس، أمام الانتقادات غير العلمية والمستندة لمبررات غير اقتصادية لمعارضى النظام. فأمام الانتقادات «الكيدية» التى لا تسعى للإصلاح والتوجيه بقدر ما تحمل من الشماتة والتشفى، أقدمت الحكومة على خطيئة أكبر بعرض بيانات إيرادات القناة على الرأى العام بعد تحويلها إلى الجنيه، فى محاولة منها للاستفادة من ارتفاع سعر الدولار، وهى خطوة تفتقر لأساسيات علم الاقتصاد وسببت الكثير من الجدل والبلبلة، فتقييم الصادرات الخدمية يكون بالعملات الأجنبية. ثم متى كان الاستثمار فى المشروعات القومية العملاقة توجها تخجل الحكومات منه فتبرره بأساليب غير اقتصادية؟ ففى عرف الاقتصاد تعد هذه المشروعات وسائل فاعلة لخلق فرص العمل ودعم القدرة الإنتاجية والتصديرية، ولكن المشكلة الحقيقية التى وقعنا فيها – كما يبدو ــ أننا ركزنا فى دراسات جدوى هذا المشروع على جانب العرض، أى تقديم خدمة جديدة بتوسعة المجرى المائى للقناة، وأجرينا حساباتنا وفق ما سيتولد نظريا بسبب اتساع المجرى المائى وزيادة قدرته الاستيعابية، مهملين على نحو كبير دور عوامل الطلب فى تحديد صافى الإيرادات، لا سيما وكل مؤشرات أداء الاقتصاد العالمى كانت تشير إلى تباطؤ حركة التجارة الدولية واتجاه الاقتصاد العالمى للركود، علاوة على انخفاض أسعار النفط العالمية مما جعل مرور السفن عبر رأس الرجاء الصالح أكثر جدوى اقتصاديا.

رسالتى هنا هى أنه لا غنى لنا عن العودة لعلم الاقتصاد من أجل الخروج من الوضع المأساوى الحالى للاقتصاد المصرى، فلا ينبغى أن تُنتهك نظريته وأصوله، ويُترك الرأى العام ليتشكل على أيدى غير المتخصصين، ولا يجوز أن تمتد العشوائية وعدم العلمية لتتحول إلى سلوك شبه رسمى فى تعامل الأجهزة المختصة مع الأزمات؛ فلن ينصلح حال اقتصاد هذا البلد إلا بما انصلح به حال اقتصادات الدنيا، وهو العودة لقواعد علم الاقتصاد ونظريته لتكون المرجع لكل سياساتنا الاقتصادية؛ فعودوا إلى النظرية الاقتصادية عسى ربكم أن يرحمكم ويرفع عنا الأزمة الاقتصادية!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved