ما الذى كان يقرأه العرب والمسلمون فى القرون الوسطى؟

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: السبت 1 سبتمبر 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «محمود حدّاد» حول الثقافة العربية والإسلامية فى القرون الوسطى، والتى يمكننا التعرف عليها من خلال معرفة ما كان يقرأه العرب فى ذلك الوقت.
يرى الكاتب أنه يُمكننا استخلاص الكثير عن ثقافة الناس من معرفة ما يقرأون، كما يُمكن للمؤرّخين استخدام طريقة مُماثلة للتحقيق فى طبيعة مُجتمعات القرون الوسطى المتعلّمة. ومن الأمثلة البارزة العالَم العربيّ ــ الإسلاميّ فى العصور الوسطى. كان المجتمع الحَضريّ الإسلاميّ بين القرنَين الثانى عشر والخامس عشر الأكثر تعلّما فى عصره: كانت معدّلات معرفة القراءة والكتابة لديهم أعلى بكثير ممّا كانت عليه فى أوروبا فى العصور الوسطى.
لقد عبَّر المسلمون عن تقديرهم للكُتب فى مَواقع عديدة، مثل بيت الشعر للمتنبّى الذى يقول: «خُير جليسٍ فى الزّمان كِتاب». ومن أجل فَهْمٍ حقيقيّ للمسلمين فى العصور الوسطى، نريد أن نعرف عن الكُتب التى كانوا يقرئونها.
كِتاب «دمشق فى القرون الوسطى: التعدّد والتنّوع فى مَكتبة عربيّة: فهرس مَكتبة الأشرفيّة» الصادر بالإنجليزيّة عن دار نشر «أدنبرة» عبارة عن دراسة مُمتعة، وإن كانت تعتمد على مَصدر واحد، أو ما يسمّى دراسة « تاريخيّة جزئيّة» واضحة: بطلتها مكتبة دمشقيّة من القرون الوسطى تسمّى «مكتبة الأشرفيّة»، يستكشفها كونراد هيرشلر، أستاذ التاريخ العربى والإسلامى فى جامعة برلين، من خلال فهرس مقتنياتها، كما كُتبت، ربّما فى أواخر القرن الثالث عشر، من قِبل القائِم على المَكتبة، وهو مجهول الهويّة. كان ذلك العصر عصر صلاح الدّين الأيوبى وحروب الصليبيّين والمغول، لذلك قد تبدو كتابة دراسة من 500 صفحة عن مَكتبة واحدة (لم تعُد موجودة الآن، فضلا عن كَونها مَكتبة مُتواضعة) غريبة بعض الشيء. ولكنّ الأهمّية الفائقة للكُتب بالنسبة إلى الدمشقيّين فى القرون للوسطى، فضلا عن الفكر الثاقب لهيرشلير، ساعدا على جلاء الغموض عن الموضوع حين يستنبط مَراجع قيِّمة من التفاصيل حول المجتمع الإسلامى فى القرون الوسطى.
***
يحتوى فهرس مكتبة الأشرفيّة على حوالى 2200 كِتاب مقدَّمة من حاكِم دمشق، المملوكى، الملك الأشرف، الذى ترك المَكتبة كإرث بعد موته فى العام 1237م.، من أجل الاستخدام العامّ واقتراض الكُتب فى ناحية من نواحى دمشق ما بين القلعة والجامِع الأمويّ. والفهرس مميَّز جدّا بسبب بقائه حتّى اليوم، إذ من بين المئات من المَكتبات القديمة فى دمشق والقاهرة وبغداد وأماكن أخرى، لم يبقَ سوى فهرسَين اثنَين للكُتب، وفَهرس كُتب «مَكتبة الأشرفيّة» هو الأقدَم. من خلال الترجمة الدقيقة للفهرس والمؤشّرات الهندسيّة والأدلّة النَّصية من التاريخ المُعاصِر، وبمُساعدة أربعة رسوم توضيحيّة غامضة لمَكتبات من القرون الوسطى فى مخطوطاتٍ عربيّة مُزخرَفة أخرى، يأخذُنا كِتاب هيرشلير خطوة إلى الوراء من حدود ضوضاء المَعارك مع الصليبيّين والمغول إلى الهدوء فى باحة مَكتبة الأشرفيّة حيث الكُتب المنظَّمة على رفوفها بطريقة مُبتكَرة. تَكشف الجهود التى بذلها هيرشلير فى هذا الكِتاب نطاقَ المجموعة التى تحتويها المَكتبة والتنوّع الكبير فى الأنواع الأدبيّة والعِلميّة الموجودة فيها والنّظام الذى استخدمه القائِم على المَكتبة فى تنظيم العناوين المتعدّدة لتسهيل إيجادها. إنّ مجموع النتائج التى توصَّل إليها هيرشلير تفتح الباب على مجموعة واسعة من الأسئلة. ماذا كانت وظيفة العقيدة والتعليم والمدرسة؟ ماذا كان يعنى أن تكون حاكِما وإماما ومُفكِّرا أو مجرّد قارئ فى دمشق فى زمن كانت فيه مركزا ثقافيّا بارزا؟ وماذا كانت تعنى بالنسبة إلى هؤلاء الدمشقيّين المَعرفة و«الكلاسيكيّات» والأُسس الفكريّة لحضارتهم الإسلاميّة فى القرون الوسطى؟ تتجنّب مُقارَبة هيرشلير التاريخيّة الدقيقة الوصول إلى استنتاجات واسعة لمصلحة التركيز على المَكتبة قَيد الدراسة. كما أنّ هذا الكِتاب ليس مقدّمة عامّة للحضارة الإسلاميّة فى عصر الصليبيّين. بل إنّ هدفه اختبار التعميمات التقليديّة والتشكيك بالروايات المنقولة، مُستكشفا آفاقا جديدة بإعطاء الأهمّية لفهرس المَكتبة الذى يشكّل وثيقة خالية من القصص السرديّ ومن التحيّز ومن أجندة التاريخ التقليديّ.
***
ويضيف الكاتب أن العرضُ الشامل للشعر فى المَكتبة، فى حقبة ما قبل الإسلام، يقدم وجهات نظر أخرى لفَهم تقدير الشعر: فهل كانت الأشعار مجمَّعة لأسبابٍ فيلولوجيّة متعلّقة بفقه اللّغة، وهل كانت متعلّقة بالتعليم الدينيّ؟ وهل كان المسلمون الحَضر يقدّرون تقاليد ما قبل الإسلام بشكلٍ أوسع ممّا كان يُعتقد؟ تضيف مقتنيات المَكتبة من الكُتب الدينيّة إلى جانب العناوين المُختلفة الأخرى دفعا متجدّدا لتعديل النماذج القديمة التى تقول إنّ المفكّرين الدينيّين «التقليديّين» كانوا بعيدين جدّا عن الأدباء الآخرين. وتُظهر البيانات أيضا إنتاجا موضعيّا جدّا للمعرفة مُحفِّزةً أسئلة جديدة حول العمل الفعليّ للمجتمع الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ العامّ.
يُنصح هؤلاء الذين يسعون للتعرّف إلى الثقافة الأدبيّة العربيّة والإسلاميّة فى القرون الوسطى بقراءة كِتاب هيرشلير السابق على هذا الكِتاب وعنوانه: «الكلمة المكتوبة فى الأراضى العربيّة فى القرون الوسطى: تاريخ اجتماعيّ وثقافيّ للقراءة» (دار نشر أدنبرة، 2011). إلّا أنَّ عُلماء الأدب العربىّ سيصرفون وقتا طويلا فى تحليل كِتاب «دمشق فى العصور الوسطى». أمّا من وجهة نظر أوسع، فإنّ هذ الكِتاب سيَسمح لنا أخيرا بمَعرفة أنواع الناس الذين كانوا يَعتبرون دمشق مدينتهم لأنّ مكتباتها كانت موزَّعة توزيعا جغرافيّا مُتباعدا.

فئة الكُتب وعدد الكُتب ونسبتها
الشعر 674 32 % ــ العلوم المنقولة 421 20 % ــ الأدب 341 16.5 % ــ العلوم اللّغوية 194 9.5 %ــ الطبّ 106 5 %ــ التاريخ 88 4 %ــ الفكر السياسيّ 72 3.5 %
فلسفة وفقه 50 2.5 %ــ عِلم الفلك 24 1 %ــ متفرّقات 72 3.5 %ــ غير معروف 54 2.5 %

طبعات تَرجمات الكُتب العربيّة
من ناحية أخرى، يتحدّى داغ نيكولاس هاس، أستاذ الفلسفة فى جامعة فريبورغ الألمانيّة، بقوّة الأسطورةَ التى تقول إنّ المفكّرين الغربيّين، والمتخصّصين بالعلوم الإنسانيّة بالذّات، تجنّبوا تماما العلوم العربيّة التى ظهرت فى القرون الوسطى لمصلحة التقليدَيْن الإغريقيّ والمسيحيّ. وكما يدلّ عنوان الكِتاب: «النجاح والإخفاء [أى اخفاء مَصادره العربيّة]: العلوم والفلسفة العربيّة فى عصر التنوير» (نشرته مطبعة جامعة هارفارد الأمريكيّة) كانت العلاقة أكثر تعقيدا. المُثير أوّلا فى عنوان الكِتاب هو ما يذكره المؤلّف من أنّه يعتقد، وبحسب قراءته، بأنّ العُلماء الأوروبيّين أخذوا بين العام 1400 و1650 (أى بين القرنَين الخامس عشر والسابع عشر) من العُلماء العرب والمسلمين، لكنّهم لم يحترموا النزاهة الفكريّة بإرجاع اكتشافاتهم إلى مؤلّفيها أو المُساهمين الأصليّين فيها.
هذه الفكرة، التى كانت نِتاج التفاعل، وكذلك التنافر، بين العالمَين العربيّ ــ الإسلاميّ والأوروبيّ، بدأت تتراجَع عندما نَشر أكثر من باحثٍ وعالِمٍ أبحاثا تَدحض الفكرة المذكورة. كان من أهمّ الكُتب التى أثارت الاهتمام كِتاب د. جورج صليبا، الأستاذ فى جامعة كولومبيا فى نيويورك، «العلوم الإسلاميّة وقيام النهضة الأوروبيّة» الذى نُشر قبل نحو عشر سنوات. وقد أثبت صليبا أنَّ العُلماء العرب والمسلمين نقدوا نظريّة بطليموس فى الفلك منذ القرن الحادى عشر للميلاد، الأمر الذى مهَّد للثورة الكوبرنيكيّة التى قلبت النظريّة التى تقول إنّ الشمس تدور حول الأرض إلى عكس ذلك تماما؛ ما فتح الباب أمام الثورة العِلميّة فى أوروبا. وكان لاستخدام كوبرنيكوس آراء ابن الهيثم وابن الشاطر أبلغ الأثر فى توصّله إلى ما توصّل إليه من تصحيح عِلم الفلك الذى كان سائدا فى العالَم الغربيّ.
أمّا أهمّية الكِتاب فتكمن فى أنَّ المؤلِّف يُظهِر بوضوح المَوقع البارز للعلوم العربيّة (أى المكتوبة باللّغة العربيّة بواسطة مؤلّفين عرب وغير عرب ومُسلمين وغير مُسلمين) بين فلاسفة وعُلماء وأطبّاء عصر النهضة الأوروبيّة. وهو يُهاجم الفكرة القائلة بأنّ إنسانويّة النهضة الأوروبيّة قامت على الأخذ من الفلسفة والعلوم اليونانيّة فقط ورفضت الفلسفة والعلوم العربيّة بما فى ذلك مساهمات كُتّاب ومفكّرين أمثال الرازى وابن سينا وابن رشد. ولم يكُن من المُستغرب أنّه كان لكلٍّ من ابن رشد وابن سينا عددٌ كبيرٌ من الطبعات اللّاتينيّة: 114 و78 على التوالى، ناهيك بابن ماسويه 72 طبعة، الرّازي67، الزهراوى 33، حنين بن إسحق 27، الكندى 25، قسطا بن لوقا 25، ابن وافد 23، جابر بن حيّان 16...إلخ.
***
وختاما يذكر الكاتب أنه وعلى الرّغم من مُحاولات طمْس مساهمات العلوم والفلسفة التى نُشرت بالعربيّة، فإنَّ العُلماء الأوروبيّين الذين كانوا يعملون فى جامعات أوروبا، قاموا بترجمة الأعمال العربيّة وطبْعها وأدخلوها فى مَناهج تعلُّم وتعليم عدّة حقول مَعرفيّة مثل الطبيعة والطبّ والفلسفة من دون الإشارة الصريحة إليها فى بعض الأحيان. وقد كان مؤلِّف الكِتاب مهتمّا، ليس بما ذكره بعض مفكّرى النهضة الأوروبيّة بشكلٍ سلبيّ عن العلوم العربيّة، بل بما فعلوه فعلا بمَصادرهم العربيّة التى تأثروا بها ورجعوا إليها فى أعمالهم.

النص الأصلي:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved