المخاطر الاستراتيجية للحد من السكان

عنتر عبدالعال أبوقرين
عنتر عبدالعال أبوقرين

آخر تحديث: الأحد 1 يوليه 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

طالعتنا الصحف فى الأيام القليلة الماضية بأن الحكومة فى مصر قد وقعت 10 عقود للحد من الزيادة السكانية بين الأسر المستفيدة من برنامج تكافُل. من ناحية ثانية، أشارت تلك الأخبار إلى انضمام «لجنة الدفاع والأمن القومى» بمجلس النواب إلى جهود الحد من السكان، وهو ما يعنى أن هذه الجهود قد اتخذت نهجا تصاعديا وسندا تشريعيا. وقد ركزت اللجنة، وجميع الوزارات المشاركة فى هذه الحملة، على إبراز العواقب الاقتصادية السلبية للنمو السكانى، التى يروج لها الغرب والمنظمات الدولية؛ مغفلة المخاطر الاستراتيجية للحد من السكان.

لذا، نحاول فى هذا المقال تحديد وتحليل هذه المخاطر، والتى يجب أن تأخذها «لجنة الدفاع والأمن القومى» فى الاعتبار. إلا أنه من المهم قبل ذلك أن نجيب عن سؤالين مهمين: هل حقا يتزايد معدل النمو السكانى فى مصر؟ وهل حقا يلتهم النمو السكانى النمو الاقتصادى؟

هل حقا يتزايد معدل النمو السكانى فى مصر؟!
تنطلق حملات الحد من السكان من اعتقاد خاطئ، عفوى أو متعمد، بتزايد وارتفاع معدلات النمو السكاني؛ بينما هى فى الحقيقة عكس ذلك. فطبقا للبيانات الواردة فى تقرير الأمم المتحدة (2017 ــWorld Population Prospects: The 2017 Revision) وبيانات البنك الدولى، انخفض معدل النمو السنوى للسكان فى مصر من 2.76% عام 1960 إلى 2.02% عام 2016. كما انخفض معدل الخصوبة بشكل حاد من 6.2 طفل لكل سيدة عام 1970 إلى 3.26 فقط عام 2016؛ منخفضا إلى النصف تقريبا، خلال 45 سنة فقط. وعلى الرغم من نجاح الحكومات المتعاقبة فى خفض معدلات النمو السكانى، فقد كان فشلها مريعا فى تحقيق التنمية، وهو ما يعنى أن النمو السكانى ليس هو سبب الفشل التنموى، وإنما الفساد وسوء الإدارة.
ثم، من قال إن معدل النمو السكانى الحالى فى مصر مرتفع؟ يكفى أن نعرف أن مستوى «الإحلال السكانى Replacement Level»، وهو معدل الخصوبة اللازم كى لا يحدث تناقص أو تزايد فى عدد السكان، هو 2.1 طفل لكل سيدة فى الدول المتقدمة، و2.33 على مستوى العالم، بينما يرتفع ذلك المعدل ليتراوح ما بين 2.5ــ3.4 طفل لكل سيدة فى الدول النامية بسبب زيادة معدلات الوفيات فيها. وفى ضوء التناقص المتسارع لمعدلات الخصوبة فى مصر، فإنه من المتوقع أن ينخفض معدل الخصوبة فى مصر إلى 2.33 عام 2050، والذى هو أقل بكثير من معدل الإحلال السكانى فيها؛ لتدخل مصر مرحلة التناقص السكانى ما بين عامى 2030 و2035؛ أى بعد 12ــ17 سنة!
وللتبسيط، فإن دخول مرحلة التناقص السكانى هو بالضبط كسيارة لم تعد قادرة على مواصلة الصعود على منحدر حاد، وما إن تفقد القدرة على الصعود وتبدأ فى التقهقر إلى الخلف، يتسارع معدل السقوط بشكل كبير، ويصبح معه احتمال العودة إلى مواصلة الصعود أمرا مستحيلا.

هل حقا يلتهم النمو السكانى النمو الاقتصادي؟
هذا ما تروجه المنظمات الدولية، وتردده حكومات العالم النامى، ويرفضه العديد من خبراء السكان والتنمية المنصفين، كما قد ثبت إحصائيا أنه غير صحيح بالمرة. فقد أظهر التحليل الإحصائى أنه على الرغم من ارتفاع عدد سكان العالم بشكل كبير خلال القرن الأخير، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى قد ارتفع بمعدلات أعلى من النمو السكانى. فبينما ارتفع الحجم السكانى للعالم 3.87 مرة بين عامى 1900ــ2000، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى 4.79 مرة خلال نفس الفترة. كما أن هذه النتيجة كانت صحيحة أيضا بالنسبة لمجموعة الدول النامية، ومجموعة الدول منخفضة الدخل، وكذلك للدول الفقيرة عالية الحجم السكانى كمصر ونيجيريا وإثيوبيا. فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلى فى مصر بنسبة 1350% بين عامى 1970 و2015؛ وبنسبة 3350% فى نيجيريا خلال نفس الفترة.
السؤال المهم: إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا لم يشعر المواطن فى هذه الدول بتحسن فى ظروفه الاقتصادية والمعيشية؟ وهنا نشير إلى الفرق الكبير ما بين النمو والتنمية (Development ــ Growth). فما حدث فى هذه الدول هو نمو فى الناتج الاقتصادى، بينما التنمية هى أن تستغل عوائد ذلك النمو الاقتصادى فى رفع مستوى المعيشة فى المجتمع ككل؛ وهو ما لم يتم، إما بسبب الفساد أو سوء الإدارة أو الحروب والنزاعات السياسية، وهو ما ليس له علاقة بزيادة السكان.

المخاطر الاستراتيجية لتناقص النمو السكانى
عندما يتعلق الأمر بالسكان والتنمية، وهو ما يحدد مستقبل الأمم ومصائر الشعوب، فإنه من العبث أن نُصَدِق ونطبق كل ما يأتينا من نصائح أو توصيات دون تمحيص أو تدقيق؛ إذ أن النصيحة الفاسدة أو المُسَمَّمَة فى هذا المجال أخطر فتكا وأعمق أثرا من الحروب والكوارث. وهنا نطرح الأسئلة التالية: ما هى العواقب الاستراتيجية لتناقص النمو السكاني؟ ولماذا يدعونا الغرب إلى ما يعانى منه؟ أسئلة مهمة يجب أن تجد لها «لجنة الدفاع والأمن القومى» إجابات قاطعة.
وهنا نؤكد أن التبعات الاستراتيجية لتناقص السكان أكثر خطورة مما تتصورون. ويكفى أن نشير إلى أن تقرير الأمم المتحدة «سكان العالم حتى عام 2300» الذى يقول بأن الاتحاد الأوروبى، والذى تجاوز 455 مليون نسمة عام 2005، سوف يتقلص سكانه إلى 59 مليونا فقط عام 2300. ليس هذا فحسب، بل يقول التقرير بصورة قاطعة، أن الألمان والفرنسيين والبريطانيين لن يكون لهم، نظرياُ، وجود عام 2300م. أعراق ستختفى فى خلال أقل من ثلاثة قرون، رغم كل ما تقدمه هذه الدول من محفزات للنمو السكاني؛ فكيف بحالنا نحن لو انزلقنا نحو التناقص السكانى أكثر من ذلك؟
ولتوضيح حجم الفزع الذى ينتاب الغرب من تناقصه السكانى، يكفى أن نشير إلى ما قاله باترك بوكانن، عام 2001، فى كتابه «موت الغرب ــ The Death of the West» (إن الغرب يموت بعد أن توقفت شعوبه عن التكاثر؛ وأن «أوروبا قد شاخت، وأنها قد أصبحت «رجلا ميتا يمشي»). وكذلك مقال فى صحيفة التليغراف البريطانية، بتاريخ 16 فبراير 2015، بعنوان «كيف تموت أوروبا ببطء بينما يزداد العالم سكانا». أتمنى أن تستخلص حكومتنا الرشيدة شيئا مفيدا من هذه العناوين!
ربما يقول البعض إننا فى وضع ديموغرافى آمن، وإن مقارنتنا بالوضع السكانى فى اليابان وأوروبا غير منطقية.. نعم نحن فى وضع ديموغرافى آمن الآن، ولكننا لن نستمر طويلا كذلك فى ظل سياساتنا السكانية الحالية. فاليابان، والتى تعانى حاليا من مشاكل ديموغرافية حادة، ولا يتجاوز معدل الخصوبة فيها 1.4 حاليا، قد كانت خارج هذه المشكلة عام 1950، عندما كان معدل الخصوبة فيها (2.75)، أى منذ 65 سنة فقط. هذا المعدل أعلى بكثير من معدل الخصوبة الذى من المتوقع أن تصل إليه مصر عام 2050 (2.33). كما أن ألمانيا قد كانت منذ خمسين عاما فقط خارج هذه الأزمة، بمعدل خصوبة (2.54) عام 1965؛ والذى هو أعلى بكثير من معدل الخصوبة المتوقع فى مصر عام 2050 (2.33). كما أنه من المتوقع أن تدخل مصر مرحلة التناقص السكانى ما بين عامى 2030 و2035؛ أى بعد 12ــ17 سنة.
وإذا كان من الممكن أن نتفهم لماذا يدعوننا الغرب إلى ما يعانى منه؛ فإن ما لا يمكن فهمه لماذا نهرول نحن لنسقط معهم فى هذه الهوة التى لا يستطيعون الخروج منها؟! ولماذا تجتهد حكوماتنا، على غير العادة، للحد من النمو السكانى المتناقص أصلا؟ إلا أن بعض التفكير البسيط سوف يبدد هذه الدهشة؛ فقد تلقفت نظم الحكم الفاسدة أو الفاشلة الدعاوى التى تقول بأن زيادة السكان هى سبب التخلف الاقتصادى، كذريعة يُعلِقُون عليها فشلهم؛ وبما يجعل الشعوب هى المتهمة بإعاقة التنمية، وليس فساد نظم الحكم أو فشلها.

الحد من السكان.. مطلب دولى
لنكن صرحاء، ونقولها بوضوح، إن عمليات الحد من السكان ليست مبادرة وطنية خالصة، ولكنها مطلب دولى. فعلى الرغم من الانتقادات والتحفظات التى وجهتها العديد من الدول إلى توصيات مؤتمرات السكان، خاصة مؤتمر القاهرة 1994، خرج برنامج العمل فيه بالتوافق بعد أن نُصَ فى بداية الفصل الثانى منه على أنه «لكل بلد الحق السيادى فى أن ينفذ التوصيات الواردة فى برنامج العمل مع ما يتماشى مع القوانين الوطنية وأولويات التنمية، ومع الاحترام الكامل لمختلف القيم الدينية والأخلاقية، والخلفيات الثقافية لشعبه، ووفقا لحقوق الإنسان المعترف بها دوليا». رغم ذلك، جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1999م، مبدوءا بعبارة: «ينبغى على جميع الحكومات دون استثناء لمن تحفظ». كما أن الوثيقة الختامية الصادرة عن الدورة (47) للجنة السكان بالأمم المتحدة، المنعقدة فى إبريل 2014، قد أوصَت بضرورة التزام الدول الأعضاء بتنفيذ مخرجات إعلان القاهرة 1994، والالتزام بجميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التى وقعت عليها دول العالم.
نصيحة مخلصة، لا تثقوا كثيرا فى توصيات ونصائح الأمم المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالسكان والتنمية.. ونقولها ببساطة ووضوح: «إن السياسات السكانية الدولية لها أهداف أخرى.. غير بريئة».. فهل من منتبه؟

وللحديث بقية..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved